إليزابيث غيلبرت، كاتبة وروائية أمريكية وصاحبة واحدة من أشهر روايات العقد الماضي والأكثر مبيعاً لسنوات متتالية "eat pray love" تحكي فيها عن سيدة متزوجة لديها حياة مستقرة، ولكنها مع ذلك تشعر بتعاسة وإحباط غير محددي الأسباب، فتقرر تغيير هذه الظروف المُملة التي لا تجد فيها ما يشعل جذوة حماسها للحياة. تبدأ تمردها بالانفصال عن زوجها ثم بالخروج إلى رحلة حول العالم، بداية من إيطاليا حيث تتعلم فنون الطعام، مروراً بالهند باحثة عن السلام الروحي من خلال التعبد والصلاة، وأخيراً تذهب إلى بالي لتجد التوازن الذي تنشده في الحب.
تبنت إليزابيث شعاراً رئيسياً في كتاباتها وأحاديثها في الندوات والمؤتمرات، وهي واحدة من أكثر العبارات ترديداً وتداولاً في هذا العصر: "ابحث عن شغفك"، "اتبع شغفك". وكثيراً ما عالجت هذا في حكايتها وكتاباتها، والدليل الملموس والمُلهم هنا هو أن شغفها بالكتابة أنقذها هي شخصياً من حياة التشرد والعمل كنادلة في المقاهي، لتصبح واحدة من أشهر الكاتبات في العالم.
كان الأمر بالنسبة لإليزابيث بالبساطة التي تدفعها أن تدعو الناس في كل المحافل بشكل احترافي وصادق لأن يفعلوا كما فعلت: أن يتركوا كل شيء ويتبعوا شغفهم!
وبالفعل ردد الناس العبارة بشكل كثيف ومذهل مأخوذين بالنجاحات المبهرة التي يحققها الصفوة من أهل الشغف محتقرينَ بؤس من قنعوا بالعيش دونه، حتى تسربت للعقول وتشربتها النفوس كقانون حياة لا يجوز الخروج عليه، كنص مقدس يُلعن من يكفر به!
الشغف هو حالة من الحماس المتقد تجاه شيء أو شخص ما يدفعك للاستمرار في التعلق به ومغالبة أي مشقة للحصول عليه. وفي وعي الجمهور العريض -لا سيما شباب منصات التواصل الاجتماعي- هو حالة من الانبهار وتوق الروح لأشياء تزيد من تدفق الدماء في عقولهم وقلوبهم وتمدهم بوقود نفسي لا ينضب أو ينطفئ، ليس لمقاومة الروتين وحسب بل للحفاظ على حالة أبدية من الدهشة بكل شيء في الحياة، وكأن المرء لكي يحيا حياة سوية طبيعية أصبح مطالباً بأن يكون دائماً في حالة من التوهج والاتقاد.
وحدث ربط وثيقٌ بين مفهومي السعادة والشغف، حتى إن المرء قد يملك من زينة الدنيا ونعيمها ما يفتقر إليه الملايين غيره في هذا العالم، إلا أنه سيبقى تعيساً وشقياً لأنه مصاب بـ"فقدان الشغف".
عقب إحدى ندوات إليزابيث في أستراليا، حيث ألقت خطابها المعتاد عن الشغف، تلقت رسالة مطولة عبر منصة فيسبوك من سيدة تقول لها فيها: "لقد انضممت لحديثك باحثة عن الإلهام وكلي حماس واستعداد لتغيير وجهة نظري في العالم وفي مكاني فيه. ولكن عليّ أن أخبرك أنني أجلس الآن في الظلام وحيدة في غرفتي وأنني لم يسبق لي أن أشعر بهذا القدر من السوء حيال نفسي قط. كل ما أفعله هو محاولة فهم ذلك الشيء الذي تتحدثين عنه، بحثت كثيراً ولكنني أؤكد لك أنني لا أملك شغفاً حقيقياً بالطريقة التي تُعرّفينه بها والتي من شأنها أن تدفع المرء للتضحية بكل شيء من أجله. السيئ في الأمر أنك كنت تتحدثين عن الأمر وكأنه أيسر شيء في العالم. أنا إنسانة ذكية جداً حاصلة على العديد من الشهادات والمؤهلات ويمكن القول بأنني ناجحة بالمعنى التقليدي للكلمة، ولذلك فأنا واثقة أنه لو ثمة شيء بهذا الوضوح في حياتي لأفتتن به فأنا لدي الذكاء الكافي للتعرف عليه".
لقد اعتاد من هم مثلك بالتوجه إلى من هم مثلي بالحث والتحفيز للعثور على الشغف بهذه البساطة: "اتبع شغفك"، ولكن ما يحدث هو أن شعوراً بالفشل والضياع يخيم على نفوسنا، فقد أكون مهتمة بالعديد من الأشياء ولكن لا شيء بعينه يملؤني برغبة في التخلي عن كل شيء وملاحقته. أعني أنك قد لا تقصدين ذلك ولكنك جعلتيني أشعر بأنني أكثر الناس فشلاً وإخفاقاً".
تقول الكاتبة في أحد لقاءاتها إن هذه الرسالة كانت بمثابة نقطة تحول في أفكارها وسرعان ما تخلت صاحبة النص المقدس والقانون المنزه عنه وحاولت استبدالها بشعار آخر تراه أكثر مواءمة لحقيقة البشر وهو "تعرف على ميولك"، "تتبع فضولك". ولكن ما حدث أن شعارها الأول كان أكثر سطوة على نفوس متابعيها ولم يكف الملايين عن ترديده أو عن ملاحقة ذلك الشيء السحري الذي ظلوا مؤمنين به وإن كفرت هي نفسها به، بل وحملوا لواء الدعوة إليه وحاربوا من تخلف عن الركب والتهليل.
بالتأكيد إن الشغف شعور مميز وطاقة مثيرة تُجَدد بها الحياة في النفوس الراكدة، الكلمة بحد ذاتها تحمل رونقاً خاصاً يليق به أن يبقى محفوظاً في هالته لمن وجد في نفسه حاجة تلح عليه وتسوقه إلى اقتباس شيء من نوره عليه حينئذ أن يغوص في رحلة عميقة داخل نفسه ليكتشف المعاني الكامنة في ثناياها ويلتمس مواضع الطاقة بها ليختبر ذلك الشعور من الداخل أولاً دون تدخل أو مؤثرات خارجية.
ولكن ابتذال الكلمة على ألسنة الوعاظ النفسيين ومتحدثي التحفيز وتقاذفها بين أيادي صانعي الآمال سريعة التحضير أطفأ نورها وأثقلها بأوهام وخيالات لزجة من شأنها تحميل النفس بكمية لا بأس بها من الكآبة والتيه في سبيل الوصول إلى ذلك الفردوس المفقود. وهكذا تحولت الكلمة الباعثة للأمل لأكثر الكلمات المُوترة والمسببة للإحباط لجيل لم يعد بمقدوره صياغة أفكاره بمنأى عن ترهات العالم الافتراضي سريعة التوغل والانتشار.
ويزداد الأمر سوءاً عندما يتحول من مجرد رفاهية واختيار، أو خطوة تجميلية لإضفاء نكهة منعشة على الحياة، إلى واجب لا مناص من تأديته، وغيابه عار يجب تفاديه.. فبدلاً من "اتبع شغفك" البسيطة تلك، سيُقال لك ببساطة أكبر: "صِف لنا شغفك"، وإن لم تملك واحداً واضحاً لتتحدث عنه بلهفة واستمتاع سيتم وصمك بالبهيمية والتخلف.. لا نفع من حياتك ولا فائدة!
ما يغفله دعاة الشغف أن الغالبية العظمى من البشر لا يملكون هذا الشيء حقيقةً ولا يمكنهم الحصول عليه بهذه السذاجة، ومع ذلك فإنهم لم يعودوا قادرين على الحصول على حياة هادئة يظللها الرضا وترطبها القناعة بما يمتلكون من طاقات وإمكانات، ذلك لأن فقاعات الشغف التي خلقها رموز التحفيز في كل مكان أخذت تحكم قبضتها حولهم وتضيق على صدورهم وترغمهم على التخبط فيها لنيل شرف الحياة السعيدة، فيجد الإنسان البسيط نفسه يطوف وديان الحياة مكبلًا بأغلال من طين لا تقيد حركته بقدر ما تُثقلها وتلوثها، ثم يشكو حاله بأسى وتغيُّب:" إنني مصاب بفقدان الشغف".
ما أحاول الوصول إليه ليس التمرد أو الاعتراض بقدر ما هو إطلاق دعوة للتباطؤ. على المرء أن يتباطأ قليلاً في قبول وتبني ما تقترحه عليه متغيرات هذا العصر فائق السرعة من أفكار ومبادئ ومذاهب. الانسلاخ من حشود المتسابقين في ماراثون هذه الحياة سيبدو غريباً، ولكنه قد يحميك من الانسحاق تحت أقدامهم، ويكفيك أن تختلف عن الجموع الهوجاء في استبصار الحقائق بعين قلبك وترقب حركة الأيام لاستقصاء أنسب زاوية تمكنك من رؤية الحياة من منظور أكثر هدوءاً وأناة.
فإن كنت تحيا يومك العادي جداً ولاحظت تسرب شعور عدم الرضا إلى قلبك بسبب تلك الشعارات والمقارنات المجحفة تذكر أن خيراً لك أن تتلكأ في مشيك على أن تكون جزءاً من حشود هوجاء خُدعت بسراب فأخذت تطارده ولا تقوى على التوقف لتذوق المعنى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.