من فضلك لا تتبع شغفك

عدد القراءات
6,994
عربي بوست
تم النشر: 2020/11/09 الساعة 15:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/11/09 الساعة 15:14 بتوقيت غرينتش
This is photocollage

في عالمٍ يحب المسميات البراقة، ويقدس الجنون مهما كان غير منطقي، ويصنع المغامرات القاتلة ليس لشيء غير حصادها أعداد المشاهدة، لن نُفاجأ بخطابات التنمية البشرية، التي ستشعرك أنك "للأسف- عادي جداً"، لم تفعل في حياتك شيئاً يستحق الإبهار، لأن آخرين سبقوك بالفعل، واتبعوا شغفهم بينما أنت جالسٌ على مكتبك تقبض راتباً ثابتاً آخر كل شهر.

سيقولون لك إن الدنيا لا تستحق أن تربط نفسك بعملٍ تداوم فيه يومياً، ولا تستدعي أن تضحي بما تحب من أجل وظيفة ثابتة، وأنه لا مبرر بأي حالٍ من الأحوال لِأن تمنع نفسك من السفر والمغامرة وفتح قناة على اليوتيوب تكلم الناسَ فيها عن مذاق "الشغف" وحلاوة اتباعه كأنه نبي.

سيُخيَّل إليك أنك من المتخلفين جداً، أنك آخر الطابور، كل هؤلاء ضحوا بوظائفهم وخاطروا وأنت ما زلتَ أسيراً لذلك الكرسي؟ كل هذه مدونات للسفر؟ كل هذه أرباح من اليوتيوب وإنستغرام؟ كل هؤلاء الناس لم يستمروا في دراستهم؟ كل أولئك المديرين لم يستمروا في شركاتهم الأولى واستقالوا منها؟ وهذا الرجل ترك وظيفته لأنه فقط شعر بأنه "مش مبسوط"؟

ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد، ستُضرَب لك أمثلة تتكرر منذ بدأت الخليقة، سيقولون إن فلاناً عمره الآن ثلاثون عاماً، لكنه خامس أغنى أغنياء العالم، لماذا؟ لأنه اتبع شغفه، ثم انظر إلى ذلك الرجل الخمسيني، كان فقيراً حتى أدرك في ثلاثينيات عمره أنه لا بد أن يقول للشركة التي يعمل بها إنه اكتفى عند هذا الحد، وإنه سيغادر بحثاً عن شغفه وتلبيةً لنداء الراحة في مكانٍ آخر، ثم صار من أثرياء دولته واختير قبل أيامٍ وزيراً في الحكومة.

ثم انظر، هل أنت فرِح بكلّيتك؟ سعيدٌ بسعيك ودراستك في الجامعة؟ فخورٌ بالشهادة؟ يؤسفني أن أقول لك: "بِلّها واشرب مَيّتها"، لأن فلان الفلاني درس حتى الإعدادية فقط، ولأن الملياردير فلان لم يُسجل في الجامعة، ولأن العالِم فلان قيل له في المدرسة إنه أغبى تلميذ في الفصل، ولأن الثانوية العامة ليست مؤشراً على نجاحك أو تفوقك أو تميزك، ولأنك لو كنتَ الأول على الجمهورية فذلك لا يعني سوى أنك أشطر حمار في الساقية، ولأن المنظومة التعليمية في الكوكب عموماً لا تراعي شغف الطلاب.

سيقولون ذلك، لكنهم لن يحدثوك -يا سيدي العزيز- عن الذين أكملوا دراستهم وصاروا في أمكنة مرموقة، ولا عن الذين تفوقوا في الثانوية العامة ووصلوا بطريق مختصر إلى ما أرادوا، ولن يحدثوك عن الذين لم يتركوا شركاتهم وتدرجوا فيها حتى صاروا في مركزٍ يرضيهم، ولن يحدثوك عن الذين تابعوا في وظائفهم أو دراستهم وصبروا عليها، ثم وجدوا فيها رزقاً خيراً من الذين كانوا يريدون اتباعه، ولن يحدثوك عن الذين يجتهدون في المدرسة ثم يلاقون نتيجة اجتهادهم مجموعاً مذهلاً في النتيجة الأخيرة، ولن يحدثوك عن نسبة الذين اتبعوا شغفهم فوجدوا نتيجة إيجابية، مقارنةً بالذين وجدوا نتائج كارثية، ثم مقارنةً بالذين لم يتبعوا شغفهم أصلاً.

سيدي القارئ، الأمر نسبيٌّ بحت، وليس قاعدةً أن نكون شاذين عن القاعدة، والأصل في الأمور أن نؤدي واجبنا تجاهها حتى ولو لم نكن نحبها، وعلى رأي أمهاتنا وجداتنا: "إحنا مش هنتجوزها"، يقصدن الأشياء التي ليس شرطاً أن نحبها، ولأن الأصل في الحياة أن نسعى صابرين على مكارهها، والأصل فيها أن نواجه ما نكره، لا أن نفر منها إلى ما نحبه.

مَن فينا لا يحب الراحة؟ ومن الذي لو كان الأمر خياراً لديه لاختار المشقة؟ في الغالب سنختار الترف، ونجلس لنحصل على كل ما نريده دون أن نبذل قطرة عرقٍ واحدة، لكن الحياة على خلاف ذلك يا سيدي، تحتاج إلى المثابرة، وتحتاج إلى مخالفة الهوى، وتحتاج إلى تأديب النفس، وتحتاج إلى أن تصبر على الوسائل من أجل الأهداف، والهدف في السعي أن تُرزَق، وأن تأتي بما يكفي من المال لإعالة من تعول، ولتكفل نفسك بنفسك، وليكيفك قوت يومك.

ثم حين تتبع شغفك، متخلياً عن الوظيفة التي تكرهها، أو المكان الذي لا تستشعر فيه الراحة، فما الذي ستقدمه للأفواه المفتوحة كل صباح؟ وما الذي ستُشبِع به وحوش بطنك؟ ستطبخ لهم الشغف؟ ستصنع لهم حساءً من كتب التنمية البشرية؟ هل حين تشعر باحتياجك إلى المال ستقترض من الذي شجعك على ترك وظيفتك؟ هل سيؤمن لك وظيفة أخرى؟

أن تحمل الحجارة فوق كاهلك وأنت لست مرتاحاً في ذلك بالتأكيد، هو اتباعٌ لمسؤوليتك تجاه المسؤول عنهم، وأن تصبر على وظيفة مقرفةٍ ومديرٍ معقد نفسياً حتى تظهر فرصة أحسن هو اتباعٌ لمسؤوليتك تجاه نفسك والآخرين، مسؤولية بحكم المروءة والرجولة، ومسؤولية شرعية وعرفية.

أن تتحمل ضغط العمل، أو أن تعمل في وظيفتين، أو أن تقبل بما دون مستواك حتى تصل إلى ما تستحقه، سعياً لأن تُحصل الممكن من الرزق، فهذه مسؤولية وإن خالفَت مفهوم "الشغف" الذي يروجون له، وينعتونك بالتخلف لأنك لا تتبعه. صدقني، أهنئك، أنت رجلٌ مسؤول وكريم، ولا تؤثر رفاهيتك على حساب واجباتك.

سيدي القارئ، من فضلك، لا  تتبع شغفك؛ لأن الدنيا لم تفصّل على مقاسنا بالضبط، ولأننا لسنا بها وحدنا فنذهب إلى ما نحب ونغادر ما نكره، ولأن مروءتنا تستدعي أن نؤثر الحلول العملية على الخطَب الرنانة، وأن نعمل بكرامتنا فيما ينفعنا بدخلٍ آخر الشهر ولو كانت وظيفةً لا تستهوي مدوّني اليوتيوب، ولأن الدراسة والتعليم والمدرسة والجامعة كلها -على فساد بعضها- تُعلم، وتزرع فيك ما لن تزرعه كتب بيع الوهم، ولأن نتيجة الثانوية وإن كانت في أحيان لا تدل على فشل صاحبها، فإنها لا تعني بالضرورة أنها لا تدل على تفوقك، أهنئك لأنك متفوق وذلك أحد الأدلة.

سيدي القارئ، "الشغف" أرقى بكثيرٍ من الذين يسوّقونه، وهو بالمفهوم الذي يحاولون إيصاله مجرد فقاعةٍ كبيرة، ستأخذك نحو الهاوية، ولأن "الشغف" من زاويةٍ أخرى قد يكون عائلتك، يا سِيدِي كن شغوفاً بعائلتك، ومن أجلها اعمل في كل شيء، وتحمل أي شيء، ثم حين ينتعونك بالتخلف وعدم اتباع شغفك قل لهم إنك بالفعل اتبعت شغفك، لا شغفهم، فلا يعنيهم ذلك في شيء.

ثم لماذا لا يكون الشغف مرتبطاً بالعائلة؟ ألسنا نضحي بكل شيء من أجل الشغف؟ ونضحي براحتنا في سبيله؟ إذَن يا سيدي، الشغف هو العائلة، والعمل ضمن الأشياء التي تتحملها من أجلها، لأنك ستكون أنانياً جداً إن ضحيتَ بالأسرة وقوت يومِها في سبيل "بحثك عن شغفك"، أو عن "شغفهم"، الذي يضعون أنفسهم معياراً لهم، إن خالفتَه فلن تكون لك قصة "مجنونة" مثلهم، ولن يكون لك نصيبٌ في الأمثلة التي يضربونها.

شغفك بيتك، إن أصبحت فيه معافى في جسمك، آمنا في سربك، عندك قوت يومك، فقد حيزت لك الدنيا، بلا بطولات وهمية، ولا قصص خارقة، ولا إثباتات للمجرّة أنك أكثر الناس جنوناً فيها. يكفيك نظرك باطمئنان في عيون الذين تحبهم، واستشعارك الأمان في الأرواح التي تألفها، والسعي والاجتهاد في المكان الذي تعمل به، والتدرج المنطقي حتى تصل إلى ما تريده. ولو كان على أيام آبائنا "الشغف" الذي عليهم اتباعه، فاتبعوه، لنشأنا نأكل من خشاش الأرض، ولضربنا برحلات بحث آبائنا عن شغفهم عرض الحائط، ولَما سامحناهم، ولقلنا لهم: يا ليتكم بحثتم لنا عن الخبز أولاً.

 لكننا الحمد لله نتباهى بقصص أخرى، عن صبرهم لأجل العائلة، عن تحملهم لبناء الأسرة، عن سعيهم ليل نهار هنا وهناك حتى يأتوا بلقمةٍ يضعونها في أجوافنا فلا ننام جوعى في المساء.

من فضلك كُن عادياً جداً، تذهب إلى عملك في الصباح، وتعود منه آخر النهار، تحمل تعباً فوق كتفيك، وتحمل حلوى بين يديك، وتحمل صبراً في صدرك، ثم يلقاك أهل بيتك بابتسامةٍ وحب وتقدير لجهدك، فيسقط التعب وتتبخر حبات العرق، وتجالس أهلك في السمر، وتنام مستعداً لليوم التالي، مستعيناً بالله ثم بحب الذين من حولك على سعيك، إلى أن تأتي آخر الشهر بما قسمه الله لك، وأنت تبحث جاهداً عما يزيد الراتب، أو يزيد بركته، راضياً عاقلاً مسؤولًا، حتى إذا طُلب منك المصروفُ ستُخرج ما تقدر عليه من محفظتك، ولن ترسل إليهم رابط محاضرةٍ عن اتباع الشغف.

من فضلك، ليس ضروريًّا أن تسبح عكس التيار، خصوصا إذا كان التيار مدًّا لا جزرًا، يسحبك نحو الشاطئ والنجاة، لأن السباحة عكس التيار على طول الخط قد تغرقك في دوامةٍ لا نهاية لها، وحينها لن يمد إليك بائع الوهم يده لينقذك، وإنما سيتستّر على جريمته، ويتجاهل سقوطك المروّع، ويظل يخاطب الناس -من فوق مركبه- عن جمال السباحة عكس التيار، في بحر الشغف.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.