"إن لديك سلطة على عقلك لا الأحداث الخارجية، كن مدركاً لهذا، وستجد القوة". ماركوس أوريليوس
كثيراً ما تعذبنا أفكارنا أكثر مما تؤلمنا الأحداث. نتألم لما مضى وما سيأتي، ونتأمل فيما يقول الناس، وكأنهم يضعوننا في قفص الاتهام دائماً وعلينا تبرير أفعالنا ومعتقداتنا، بل كأننا ملزمون بإثبات أننا نستحق الاحترام والحب. ننظر للغد بقلق، ونتأمل في كل السيناريوهات المريعة التي من الممكن أن تحدث، مما يسرق النوم من أعيننا ويجبرنا على السهر في أرقٍ وقلق.
إن من لم يجد ما أسلفت ذكره غريباً -وهم كثيرون في عصرنا الحالي- يعرفون جيداً قدر الألم الذي تسببه لنا أفكارنا التي تجول وتصول في الماضي والحاضر والمستقبل كحصانٍ جامح، عاجزين عن إلجامه، حصان يقوده صوتٌ داخلي قاسٍ حاد العبارات.
ينصحنا الفيلسوف الرواقي أبكتيتوس، المتوفى عام 130 ميلادياً، كما روى عنه تلميذه آريانوس، بأن نفرق بين ما يخضع داخل نطاق سيطرتنا وما يقع خارجها، ويقول:
"بعض الأشياء تقع ضمن نطاق سيطرتنا وبعضها تقع خارجه. ما يمكننا التحكم به هو آراؤنا ومساعينا ورغباتنا وما نبغضه، -باختصار- كل ما هو صادر عنا من تصرفات. الأشياء التي تقع خارج نطاق سيطرتنا هي جسدنا وممتلكاتنا وسمعتنا وسطوتنا، أو -باختصار- كل ما لا يصدر عنا من تصرفات. الأشياء الواقعة داخل نطاق سيطرتنا طبيعتها حرة بلا قيود أو عوائق، أما ما يقع خارج نطاق سيطرتنا هي أشياء ضعيفة خاضعة مقيدة ويملك الآخرين زمامها".
يؤكد الرواقيون على أن ما يؤلمنا ويؤرقنا ليست الأحداث الخارجية أو آراء الناس في حد ذاتها، ولكن تفسيرنا ورؤيتنا لتلك الأحداث والأقوال. ويتفق معهم آرون بيك (Aaron T. Beck) عالم النفس الأمريكي ومؤسس العلاج السلوكي المعرفي (CBT).
وصف آرون مجموعة من تشوهات الإدراك التي تتسبب في تفسيرنا الخاطئ للأحداث وتؤدي إلى تعاطي خاطئ مع العالم يسرق من سعادتنا ويتركنا في حالةٍ دائمة من القلق.
1- التفسير الاعتباطي (Arbitrary interpretation)
التفسير الاعتباطي هو تفسير لموقف أو حادث أو تجربة دون الاستناد لدليل فعلي وواقعي. مثل أن يدخل أحدهم إلى غرفة اجتماعات متأخراً، ويعتقد أن الجميع يتابعونه بنظراتهم، أو أنهم يبغضونه لأنه فاشل. هذا تفسير خاطئ لأنه لم يقرأ ما يدور في عقل الناس، كما أن اهتمام الناس في أغلب الأحيان ينصب على ذواتهم، فلا أحد يعطيه هذا الاهتمام الذي يعتقده.
2- التجريد الانتقائي (Selective abstraction)
التجريد الانتقائي هو عملية التركيز على تفصيله مجتَزَأة من سياقها وبناء حكم كامل على الموقف وفقاَ لتلك التفصيلة، مع تجاهل تفاصيل أوضح وأهم في الموقف.
مثال: خلال حفل زفاف محمد كان الكل سعداء من أجله وتلقى الكثير من التهاني، باستثناء عمة العروس لم تبتسم وهي تصافحه. هنا يهذب تفكير محمد الانتقائي إلى التركيز على تلك التفصيلة وتفسيرها تفسيراً مبالغاً فيه وهو أن السيدة تلك لا توافق على زواجه وبالتالي هذا يثير قلقه. بالطبع هذا تفسير خاطئ لأن هذه تفصيلة صغيرة من الموقف، كما أن السيدة تلك قد تكون مريضة أو حزينة لسبب آخر أو أن هذه مجرد طبيعتها أنها لا تحب الابتسام كثيراً، وقد تكون تكن مشاعر سلبية للعروس وليس محمد.
3- الإفراط في التعميم (Overgeneralization)
الإفراط في التعميم يعني هنا وصول الشخص لاستنتاج بصدد نجاحه أو قيمته في الحياة استناداً إلى حدث وحيد.
مثال: رفضت تلك الشركة سارة بعد مقابلة طويلة. بعد أن وصلها قرار الرفض بدأت بلوم نفسها وبدأت تكرر عبارات مثل "أنا فاشلة" أو "أنا محكوم علي بالفشل في كل شيء". هذا التفكير سلبي وخاطئ تماماً، فإن رفض الأشخاص في الوظائف يحدث كثيراً كما أن لدى سارة فرص كبيرة في المحاولة والنجاح في مكانٍ آخر. إنها لم تقبل في الوظيفة س في الشركة ص، لكن لديها فرصة للتقديم في عدة وظائف في عدة شركات في أي وقت.
4- التضخيم والتتفيه (Magnification and minimization)
التضخيم أو التتفيه هي أخطاء كبيرة في الحكم على الأمور مع وضعها في حجمٍ غير صحيح، سواء عن طريق تضخيم ما هو بسيط وعابر أو التتفيه مما هو مهم وخطير.
مثال 1: تلوث قميص حسام وهو متجه إلى عمله لحضور اجتماع مهم بين إدارة شركته وشركة أخرى لعقد صفقة مهمة. اعتقد حسام أن مظهره هذا سيحرج مديره وستفشل الصفقة، وسينتهي به الحال مطروداً من عمله. ويتضح هنا فساد هذا التفكير، حيث اتجه حسام إلى أسوأ سيناريو يمكن تخيله استناداً إلى اعتقاد خاطئ عند البعض بالتوقع الدائم لما هو أسوأ، وهي فكرة تشاؤمية تضر ولا تنفع.
مثال 2: أخبرت إيمان صديقتها فاتن أنها تهمل كثيراً في عملها وأنها قد تغيبت عدة أيام عن العمل وحضرت متأخرة في أيام أخرى وأن هذا قد يتسبب في فقدانها لعملها، فأجابتها الأخيرة بأنك قلقة أكثر من اللازم، الأمور ليست بهذا السوء، كما أن الأيام التي تغيبت أو تأخرت فيها لا يتعدون ثلث الشهر. هذا مثال صارخ على التتفيه من مشكلة كبيرة حقيقية.
5- التصنيف والعنونة (Labeling)
شعر حسين بالخجل حينما تحدثت إليه زميلته في العمل في أمرٍ شخصي ولم يستطيع أن يقدم لها رأياً صائباً. بعد انتهاء الموقف قال لنفسه: "لا فائدة، أنا خجول ولا يمكنني أن أدخل في علاقة جادة مع فتاة". هنا أخطأ حسين بأنه صنف نفسه على أنه "خجول" بشكل متسرع، ولو كان قد ألقى نظرة عامة على حياته لوجد مواقف كثيرة لم يتصرف فيها بخجل حتى مع الفتيات. وكان بدلاً من أن يصنف نفسه على أنه خجول كان يجب أن يعيد صياغة العبارة لتكون: "لقد تعاملت بخجل في هذا الموقف".
6- الشخصنة (Personalization)
يميل بعض الناس لأخذ الأمور بشكل شخصي، دون وجود دليل على هذا، ودون وجود صلة كبيرة بينه وبين الحدث، وبهذا يصل إلى استنتاجات خاطئة تنال من سلامهم النفسي ومن صورتهم الذاتية.
مثال: تحدثت صديقة جاسمين معها باقتضاب في آخر مكالمة هاتفية لهما، وبدا على صوتها أنها غاضبة أو محبطة. توصلت جاسمين هنا إلى استنتاج أن صديقتها غاضبة منها؛ لأنها قامت بخطأ ما. لقد وضعت جاسمين ذاتها في مركز حياة صديقتها، وكأن فرحها أو حزنها أو غضبها يجب أن ينتج عن تصرفات جاسمين، في حين أن آلاف العوامل والاحتمالات تتحكم في مزاج الأشخاص وحالتهم النفسية.
كان هذا نموذج لتشوهات التفكير التي تؤدي بنا إلى الوصول إلى أحكام خاطئة عن أنفسنا وعن العالم.
في المقالات التالية سنركز على سبب حدوث تلك التشوهات النفسية، وما هي الاستراتيجية المثلى للتفكير بشكل صحيح.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.