تبقى السعادة حلم البشر الأول والأخير، يبحث الناس في كل المجالات، وكل الأزقة والطرقات عن السعادة، يبحثون عن الجمال الدائم والابتسامة الناصعة والبيوت الفارهة، عن الكمال المزعوم، يبحثون عن السلطة وعن المال، يبحثون في كل مكان بشغف أو بدون شغف، يبحث الإنسان أن يكون سعيداً دوماً مثل نجوم الدراما والإعلانات.
لكن هل السعادة هنا في هذا الكومباوند؟ هل في أفخم الملابس؟ هل هي في تلك الوظيفة؟ هل في المزيد والمزيد من الرفاهيات والاختيارات؟
يبحث بهمة ونشاط وعزيمة، أن يكون تلك الصورة الانتقائية التي رسمها له ملوك التسويق في العالم لبيع مزيد من المنتجات فيصبح أسيراً لديهم، يعمل طوال اليوم حتى يستطيع أن ينعم بالرفاهية التي يراها في الإعلام والفواصل في الإعلانات، أن السعادة الدائمة في الكمال والحصول على المزيد وأن تكون في رخاء دائم.
ولكن علماء النفس لهم رأي آخر.
يقول الكاتب مارك مانسون في كتابه (فن اللامبالاة)، إن تلك الثقافة الاستهلاكية شديدة النجاح في جعلنا نريد المزيد والمزيد والسعي وراء الشراء، حيث تقوم أشكال التسويق الكثيرة على فكرة أن هناك المزيد من الأحسن دائماً.
ويردف الكاتب أنه هو نفسه عاش سنوات طويلة مقتنعاً بهذه الفكرة، يجمع مزيد من المال ويزور مزيداً من البلدان ويتعرف على مزيد من العلاقات العابرة، وهكذا في سعي دائم من أجل المزيد. ولكنه اكتشف أن السعي وراء المزيد يجني سعادة أقل! ويبرهن على ذلك بما يطلق عليه علماء النفس "مفارقة الاختيار".
إننا كلما زادت أمامنا الخيارات المتاحة والمتوافرة لنا، صرنا أقل رضا بالشيء الذي يقع اختيارنا عليه مهما كان ذلك الشيء.
فإذا كانت هناك مثلاً إمكانية الاختيار بين بيتين للعيش، ثم اخترت أحد المكانين فمن المرجح أن تشعر بالثقة والراحة، لأنك اتخذت الخيار الصحيح، وسوف تكون راضياً عن قرارك.
أما إذا كانت لديك إمكانية الاختيار بين ثمانية وعشرين مكاناً للعيش، ثم اخترت مكاناً منها، فإنك من المرجح أن تمضي سنوات من الشك والعذاب بسبب قرارك. ستظل تسأل نفسك كثيراً إن كنت قد أقدمت على الاختيار "الصحيح"، وإذا ما كان هذا الاختيار يزيد سعادتك حقاً.
إن هذا القلق، وهذه الرغبة في اليقين من الوصول إلى الكمال وإلى النجاح الدائم، هي ما يجعلك شخصاً غير سعيد.
بل يردف من خلال تجربته الخاصة أن ذلك جعله لا يحسم اختياراته وكان لا يختار شيئاً على الإطلاق؛ خوفاً من أن يختار الاختيار الذي سيجعله أقل سعادة، بل كان يحاول إبقاء اختياراته مفتوحة على الدوام.
وهذا أدى به إلى تجنب الالتزام، والسعي وراء المزيد جعله أقل رضا وأقل نجاحاً وأقل سعادة.
ويؤكد الكاتب أن أفضل ما حدث له على المستوى الشخصي خلال السنوات القليلة الماضية، هو أنه استطاع رفض المزيد من كل شيء، والتزم بعلاقة مع امرأة واحدة، والتزم بالعمل في مهنة واحدة وعلاقات وقيم كافية بالنسبة له والعيش في مكان واحد. وفوجئ الكاتب بأن المردود الاجتماعي كان مضاعفاً من خلال حفنة من الصداقات والعلاقات الحقيقية المستمرة ذات معنى.
واكتشف أن "الالتزام حرية"، لأنه يجمع انتباهه وتركيزه فيصبهما في الاتجاه الأكثر فاعلية في جعله سعيداً معافى.
ويضيف أن الالتزام يجعل اتخاذ القرار أكثر سهولة ويزيل أي خوف من الوقوع في الخطأ، وأنك تعرف أن ما لديك الآن جيد بالنسبة لك، فلماذا ترهق نفسك بالسعي نحو المزيد والمزيد؟ إن الالتزام يسمح لك بالتركيز على حفنة من الأهداف المناسبة لك والتي تحتاجها في حياتك.
ويختم الكاتب بقوله:
إنّ رفض البدائل يحررنا، رفض كل ما هو غير منسجم مع قيمنا ومع المقاييس التي اخترناها، إنه رفض الجري الدائم وراء الاتساع من غير عمق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.