ملايين المشاهدات.. ولكن! ما الآثار السلبية لمتابعة برامج الطعام وتقييم المطاعم؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/04/12 الساعة 10:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/04/12 الساعة 10:38 بتوقيت غرينتش
أطعمة/UnSplash

انتشر في الآونة الأخيرة تحوُّل كثير من المؤثّرين على وسائل التواصل الاجتماعي لتقديم برامج عن مراجعة المطاعم والمأكولات التي تقدّمها، دون أي سابق معرفة أو تخصص أو حتى إشارة مسبقة لإمكانية توجههم لهذه النوعية من البرامج.

إن الغرض من تقديم برامج الطعام في المقام الأول هو التربح المادي، سواء من جانب المؤثرين أو من جانب أصحاب المطاعم والمعلنين، فكلا الطرفين رابح من هذه المعادلة، إلا أن هناك طرفاً ثالثاً ليس له أي نصيب من هذه الأرباح الطائلة، وهو الجمهور، بل ربما يكون هو الخاسر الوحيد على المستوى النفسي والتربوي والاجتماعي، والاقتصادي أيضاً. 

قبل الطفرة الواسعة التي حدثت في وسائل التواصل الاجتماعي لم يكن ثمة وجود لـ"برامج الطعام" هذه، غاية ما هنالك كانت إعلانات ودعاية مباشرة للمطاعم لا تتجاوز بضع ثوانٍ على شاشات التليفزيون، بالإضافة للبرامج التي كانت تقدم وصفات المطبخ والمأكولات والحلويات. 

من جانب آخر، كانت تُنشر في بعض الوسائل الصحفية "الجرائد والمجلات، والمواقع الإلكترونية فيما بعد"، مراجعات مشابهة، ولكن في صورة مقالات، لم تكن تحمل الطابع الترويجي للمطعم بقدر ما كانت تقييماً حقيقياً للمأكولات المقدمة فيه، ومستوى النظافة والنظام والتسعير ومعايير الجودة بشكل عام. إلا أن هذا النوع الأخير كان قليلاً جداً في الصحافة العربية.

مع ظهور القنوات الفضائية المتخصصة بدأت تظهر قنوات الطبخ، والتي كانت تعنى في المقام الأول بتنفيذ وصفات المطبخ في عدد من البرامج على مدار اليوم، ومن هنا بدأت في الظهور عربياً فكرة برامج المراجعات لعدد من المطاعم المعلِنة على تلك القنوات، لكنها كانت مراجعات بسيطة غير متشابكة كما هو حال المراجعات الموجودة حالياً على وسائل التواصل الاجتماعي أو القنوات الفضائية. 

مع ضجيج وسائل التواصل ظهر تقييم للمطاعم من نوع جديد، مصحوباً بمؤثرات غالبيتها تخاطب الغريزة والرغبة والاشتهاء للطعام، ولا تكتفي بالعرض المجرد للسلعة أو الطعام المعروض، وهذا ما يضعها في موضع التهمة، مهما كانت نوايا مقدِّميها حسنة، ومهما كانت دوافعهم إليها ملحّة كالبطالة التي تفشَّت واضطرت كثيرين إلى التوجه لمثل هذه النوعية من البرامج للحصول على المال بأي صورة، رغم عدم تخصصهم أو تمتعهم بأية مؤهلات تتيح لهم ممارسة الطبخ مثلاً، أو ممارسة التقييم المبني على معايير موضوعية أو علمية للمطاعم ومنتجاتها، فالأمر مجرد انطباعات ذاتية بحتة لا تخضع إلا للذوق الفردي.

لقد شاهدت أحدهم -وهو من الشباب المشاهير- يطبخ إحدى الوصفات البسيطة، ويتعثر في المكونات ولا يدري ماذا يضع، حتى سأل والدته وكانت خلف الكاميرا توجهه خطوة بخطوة!

تحليل محتوى برامج الطعام وتقييم المطاعم

بمشاهدة عدة برامج متنوعة في الأسلوب، ومتفقة في كثير من التفاصيل، يمكننا تحليل محتوى هذه البرامج إلى التالي:

هناك 3 أنماط شهيرة من هذه البرامج:

النمط الأول وهو خاص بالمشاهير ذوي المتابعات المليونية على وسائل التواصل، والنوع الثاني خاص بأنصاف المشاهير وقليلي المتابعين، ويختلفان في أن مؤثّري النوع الأول يطلبهم ويستدعيهم أصحاب المطاعم الكبرى للترويج لهم من صالة المطعم نفسه، من خلال تجهيز سفرة عامرة بأصناف المأكولات التي يقدمها المطعم.

النمط الثاني فيكتفي بإحضار المأكولات للمنزل أو استديو التصوير، ويقارن بينها ويعنون الفيديوهات بعبارات جاذبة مثل "أفضل 5 أنواع بيتزا في مصر"، "أحسن مطاعم كباب في دبي"، وهكذا. 

النمط الثالث وهو نمط التحديات؛ يطلب من خلاله المؤثّر قائمة الطعام بالكامل أو عشرين وجبة ضخمة مثلاً أو أقل ويتحدى نفسه أو أحد رفقائه لإنهائها، وهذا أفدح هذه النوعيات وأكثرها حيوانية رغم مشاهداتها المليونية. 

أما النمط الأول فهو أقوى تأثيراً، لأنه يتيح للمؤثّر فرصة التقمّص والأداء المسرحي المتيَّم بالطعام بشكل أقوى، حيث يتفاعل أولاً مع العاملين بالمطعم، ويظهر حميميتهم وحسن ضيافتهم واهتمامهم، ثم يأتي بعد ذلك دور الأداء المتأوّه بلذة الأكل وتفصيصه وشرح محتوياته وأجزائه التي يتصاعد منها البخار وتتساقط منها العصارة المبهَّرة. مشاهد إثارية تخترق الشعور وتنفذ إلى عمق اللاوعي مباشرة لأنها تداعب الغريزة والجانب الشهواني في المشاهدين.

أما النمط الثاني "الدليفري" فهو أقل أثراً من ذلك، إلا أنه يحتوي على جانب استفزازي كبير هو الآخر لأنه يعرض عدة منتجات في وقت واحد ويقارن بينها ويتلذذ المؤثّر بكل منها على حدة. 

النمط الأخير "التحديات" لا يهتم بمذاق الطعام بقدر ما يهتم بالتهام ونهش أكبر قدر ممكن منه بشراهة وبهيمية، ويضع عنصر الإبهار بالكمية أولوية لفيديوهاته، فهذا النمط المستفز جاذب جداً للمشاهدين رغم فداحة محتواه. 

Shutter Stock/ أطعمة

الآثار النفسية والاجتماعية والتربوية لـ "برامج الطعام ومراجعات المطاعم"

قبل الشروع في الحديث عن الآثار السلبية لهذه البرامج على الجمهور نطرح هذا التساؤل، لعله يوضح لنا الصورة أكثر: هل الغرض من مشاهدة هذا المحتوى فعلاً هو الإفادة في التعرف على المطاعم، أم مجرد المشاهدة والتسلية؟

كم شخصاً ممن يشاهدون هذه البرامج يطالعونها بغرض الاستفادة الحقيقية مما فيها من معلومات عن المطاعم وتقييمها وتقييم ما فيها من خدمة، بحيث يكونون زبائن مستقبلين محتملين؟ في ظني لا تتعدى النسبة 1%، ولكن تجوُّزاً فلنقل إنها 10%، فلنا أن نتخيل أن نسبة 90% من الجمهور يشاهدون هذه البرامج بغرض التسلية البحتة وتضييع الوقت، أو بعبارة مهذبة: قضاء وقت ممتع على مواقع التواصل الاجتماعي! 

جمهور بالملايين يطالع هذه المقاطع بصورة يومية، بل على مدار الساعة. هذا القدر الهائل من البشر يضغط زر تشغيل هذه المقاطع لا ليستفيد استفادة حقيقية من المحتوى، ولا ليجري بحثاً ميدانياً عن معايير جودة المطاعم، ولا حتى ليبحث عن مطعم مناسب يشتري منه غداءً أو عشاءً لهذا اليوم.

إنما تضغط الغالبية العظمى من المشاهدين هذا الزر لتشاهد محتوى إثارياً، يحرك لديها غرائز داخلية لا تستطيع غالباً إشباعها لعدة أسباب، أبرزها الحالة المادية الصعبة التي تعيشها غالبية المجتمعات العربية في الوقت الحالي وعدم قدرتهم على توفير احتياجاتهم الغذائية. 

أناس يتناولون الطعام من بوفيه/ Istock

أضرار نفسية واجتماعية وتربوية لـ "برامج الطعام" 

1- تعزيز مبدأ اللذة: الطعام له وظيفة محددة في حياة الإنسان، وهي استمرار الحياة للاستفادة من العناصر الغذائية التي يحتوي عليها، وهو أحد متع الدنيا بالفعل، إلا أن المبالغة في الاهتمام به وتفخيمه تحوّل الإنسان إلى كائن شَرِه ، وتعزِّز مبدأ الشهوة لديه وتربطه ارتباطاً شرطياً باللذة والسعادة، وهي جمل تكررت في كثير من فيديوهات مؤثري الطعام هؤلاء (صاحب مزاج – صانع السعادة – المتعة الكبرى في الحياة… وغيرها).

2- الإصابة بالاضطرابات الاكتئابية: تسبب برامج الطعام وتقييم المطاعم في نهاية المطاف بالمشاهد إلى الإصابة بالاضطرابات الاكتئابية، لاسيما إن كان المشاهد لا يملك ما يسد به الشعور الناتج عن مشاهدة ألوان الطعام المختلفة، فيدخل في دورة حزن لا يعرف سببها، رغم شعوره بنشوة لحظية في وقت المشاهدة. 

يمكن للقارئ اختبار هذا الأثر السلبي على نفسه بصورة مبسطة وسريعة بعيداً عن الاختبارات المعملية أو الإكلينيكية؛ عرّض نفسك لجرعة كبيرة من هذه البرامج لمدة ثلاثة أيام متتالية، ثم راقب حالتك النفسية، ودوّن ملاحظاتك عن نفسك بعدها مباشرة، وانظر ماذا ترى! 

نشير هنا بشكل مختصر إلى شيوع أعراض الاكتئاب على متابعي كثير من برامج التواصل الاجتماعي، وأهمها برامج الطعام هذه، ومقاطع اليوميات المصطنعة التي يبثها المؤثرون ويتابعها المراهقون والمراهقات، خاصة على إنستغرام. وربما نتناول ذلك بشيء من التفصيل في مقالات قادمة. 

3- تعزيز النمط الاستهلاكي: النمط الاستهلاكي بصورة مبسطة وبعيداً عن التعقيد المفاهيمي يعني شراء منتجات دون حاجة ملحّة إليها، بغرض الحصول على اللذة والسعادة، أو محاكاة وتقليد الآخرين، أو بغرض التملك المجرد. والإدارات التسويقية والإعلانية في أي مؤسسة تلعب على تعزيز هذا النمط في الجمهور لتضخيم مكاسبها، وهذا عين ما يحدث في هذه المقاطع. 

إنك لا تحتاج لكي تملأ معدتك إلى كل هذا الكم والكيف من التجهيزات والتكاليف الهستيرية للطعام، إلا أن اللاوعي الكامن لديك يربط دائماً -بسبب هذه البرامج- بين هذه الأطعمة وبين اللذة والشعور بالنشوة من نواحٍ متعددة، وإنك لتستحضر باستمرار تعبيرات وجه المؤثّر وهو يأكل ويتلذذ ويغمض عينيه ويسرح بخياله ويتحسس الطعام ويبتسم ابتسامته الصفراء، في حين أنك إذا جلست لتأكل من المطاعم نفسها المعلن عنها ربما لا تجد شيئاً من ذلك، ولكنه الدافع الغريزي الذي يحرك الشَّبِقين. 

4- الأذى الصحي الناتج عن الوجبات السريعة: غالبية المحتوى المعروض في هذه البرامج مهتم بعرض الوجبات السريعة والمقلية المليئة بالدهون المشبعة والكوليسترول، والتي لها أضرار صحية كبيرة ومعروفة، وهذا لن نتعرض له بمزيد شرح، فله أربابه والمتخصصون فيه، وهو مما لا يخفى على أحد. 

5- إفساد الذوق العام وزرع عادات دخيلة: اعتياد الاطلاع على هذه الطريقة في التهام الطعام ونهشه وملء الفم به والإسراف في الكميات بهذه الصورة يرسخ لعادات اجتماعية سلبية؛ أهمها الشراهة والجشع وقلة الذوق والتبذير، خاصة لدى الشريحة العمرية الصغيرة التي هي فريسة سهلة لمثل هذه النوعية من البرامج والفيديوهات. 

6- استغلال الغرائز.. كل شيء لأجل المال: لسنا ضد التكسب المادي والعمل أياً كانت صورته، ولكن فيما ينفع الناس، أو على أقل التقديرات فيما لا يضرهم، لكن استغلال غرائزهم واللعب على احتياجاتهم وشعورهم وتعريضهم لما يفسد حالتهم النفسية والاجتماعية فهذا عمل غير أخلاقي.

كما ذكرنا، فإن النسبة العظمى من مشاهدي هذه البرامج يكون غرضهم الأساسي هو التسلية، لكن هل يمكن تمرير التسلية المصحوبة بالألم النفسي والأثر الاجتماعي السلبي بهذه الصورة؟!

7- وماذا يفعل الفقراء؟ في الظرف الاقتصادي الحالي على وجه الخصوص، وفي الوقت الذي تعيش فيه دول عديدة أزمات اقتصادية حادة أفقرت الناس، وألجأتهم إلى التنازل عن أكل اللحوم والدواجن والألبان، واستبدالها بما دون ذلك.

إن الاستمرار في تقديم مثل هذا المحتوى المستفز سيزرع الضغائن والأحقاد بين البشر، وبدلاً من الدعوة لشيوع التكافلية بين أبناء المجتمع الواحد ستنتشر الأثرة وبيع المبادئ لتوفير هذه الاحتياجات المبالغ فيها، لاسيما إذا ارتبط بها الأطفال وتطلعت إليها نفوسهم، فحينها سيكون انتزاعها من دواخلهم مسألة غاية في العسر والصعوبة. 

ختاماً.. على الرغم من الاستمتاع اللحظي لعدد من المشاهدين بهذا النوع من الفيديوهات، فإن العين لا تخطئ الكم المهول من العتاب والانتقاد لصانعيها في التعليقات عليها، ووصف الفيديو وصاحبه وتصرفاته بأنها مقززة ومنفرة ومثيرة للاستياء، وغير مراعية لمتوسطي الحال والمعدمين من غير القادرين على شراء مثل هذه الألوان من الأطعمة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد الغباشي
أديب مصري وباحث في الدراسات الإسلامية
المدير التنفيذي ورئيس تحرير منصة "رواحل" حالياً، ورئيس قسم الإصدارات والبحوث بمؤسسة الشيخ ثاني بن عبد الله للخدمات الإنسانية "راف" سابقاً.
تحميل المزيد