نظرة على تاريخ العالم من اللحظة التي كان يلاحق فيها رجل الكهف فريسته، إلى اللحظة التي تُقدَّم فيها الفريسة ذاتها مُعلبةً ومعروضة على أرفف أحد أفرع سلاسل التوريد الحديثة، تجعلنا نلحظ أن الإنسان لم يكفّ، منذ عرف طريقه إلى الطبخ، عن معالجة طعامه ليكون أكثر وفرة وأشهى، مرة بالنار وأخرى بالتدجين والزراعة، وثالثة بالملح، ورابعة بالتوابل، وخامسة بطرق الحفظ والتعليب، وسادسة بالتصنيع والتجهيز، وسابعة بالبسترة والتسويق، لعل هذا ما دفع كارل ماركس إلى القول بأن تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام، فعبر هذا التاريخ الممتد شهدت حضارة الإنسان تياراً ممتداً من التأثير والتأثر بين المطبخ وأدواته وطرقه وأطعمته من ناحية، والإنسان ومجتمعه وثقافته وتاريخه من ناحية أخرى، دفع اكتشاف النار واستخدامها في طهي الطعام الإنسان نحو تطوير أدواته والاجتماع داخل أسر صغيرة، ودفع العقل البشري إلى استهلاك المزيد من الطاقة، ما زاد من حجم التفكير وطور نوعيته، ودفعت الوفرة التي حققتها الزراعة نحو تكوين المجتمعات البشرية الأولى التي شكلت نواة الحضارة، ثم دفع الملح والتوابل وغيرها من الأطعمة العالم إلى الاتصال ببعضه على نحو متسارع، ونشأت تيارات من الثقافة والتجارة سرت داخل الجسد العالمي كتيار أحيا مواته.
الوفرة وشراهة العالم الحديث
بعد اكتشاف العالم الجديد رأى الإنسان الغربي فرصة في أرضه البكر الخصيبة لحصد المزيد من الثروة والنفوذ، ودخل في صراع مع الزمن ليحول غابات ذلك العالم إلى مزارع تغرق العالم بمحاصيل جديدة، القهوة والكاكاو والموز وقصب السكر وغيرها من المحاصيل المهمة التي استحوذت على اشتهاء العالم حتى يومنا هذا.
وعند نقطة الحداثة الفاصلة كان الإنسان يحتاج إلى تأمين مصادر غذائية اقتصادية تطعم الملايين من الذين ستقوم على أكتافهم مجد الثورة الصناعية، ومنذ ذلك الحين ازدادت الحاجة للطعام المعلب والجاهز، وتسارعت خطوط إنتاج الطعام في الزيادة، وأصبح الملايين من البشر يعتمدون على شركات الطعام العملاقة في الحصول على طعامهم.
الكوكب يدفع الثمن
لقد مثلت سياسات إنتاج الطعام تلك ضغطاً هائلاً على الطبيعة ومواردها، وإرهاقاً للنظام البيئي، فقد أدت إزالة ملايين الهكتارات من الغابات خاصة في أمريكا اللاتينية إلى زيادة الاحتباس الحراري بشكل مضطرد، كما ضعفت قوة التربة وخصوبتها عبر تلك الحقب الزمنية من استنزافها المتواصل، واستنادا إلى تحليل بيانات أجراه كل من جوزيف بور وتوماس نيميسيك نُشر في مجلة Science (2018)؛ فإن صناعة الغذاء مسؤولة عن حوالي 26٪ من انبعاثات الغازات الدفيئة، حيث تمثل الثروة الحيوانية ومصايد الأسماك 31٪ من الانبعاثات الغذائية، ويمثل إنتاج المحاصيل 27٪ من الانبعاثات الغذائية، ويمثل استخدام الأراضي 24٪ من الانبعاثات الغذائية، فيما تمثل سلاسل التوريد 18٪ من الانبعاثات الغذائية، كما تتطلب الحقول أحادية المحاصيل الأسمدة الكيماوية والمبيدات الحشرية التي تتسرب في التربة والمجاري المائية؛ ما يؤدي إلى زيادة نسب التلوث، وتُخلف مزارع التسمين بكافة أنواعها نفايات حيوانية تدفع نحو زيادة تلوث التربة والماء والهواء، كما تعتمد سياسات صناعة الغذاء في عالمنا على موارد محدودة غير متجددة.
هدر في عالم جائع
يصعب تصور ما يحدث في العالم حالياً، فهناك مجاعات مستمرة تواجه العديد من مناطقه، وأزمات غذائية تطل برأسها بعد آثار كورونا والحرب الروسية/الأوكرانية لتهدد بقية المناطق، ومع ذلك كله هناك هدر كبير مرتبط بسياسات إنتاج الطعام في عالمنا الحديث؛ حيث يتم إهدار كميات كبيرة من الطعام في كل مراحل صناعة الغذاء من زراعة المحاصيل إلى استهلاكها النهائي من الأسر والأفراد، مروراً بتجهيزها وعرضها في متاجر التجزئة.
وفي قراءة سريعة لأرقام وحقائق عرضها موقع بلدية مابل ريدج الكندية؛ نصاب بالدهشة حين نعرف أنه يتم إهدار (1.3 مليار طن) من الأغذية المنتجة عالمياً كل عام. ما يبلغ قيمته حوالي تريليون دولار أمريكي، كما يتم استخدام مساحة أكبر من مساحة الصين و25٪ من إمدادات المياه العذبة في العالم لزراعة الطعام الذي لا يؤكل أبداً، ويشمل ذلك 30٪ من محاصيل الحبوب، و40-50٪ من المحاصيل المنتجة، و20٪ من البذور الزيتية، و20٪ من اللحوم ومنتجات الألبان، و35٪ من الأسماك، كما يتراوح نصيب الفرد من النفايات الغذائية في أمريكا الشمالية وأوروبا بين 95-115 كيلوغراماً سنوياً. وهذا أكثر من 10 أضعاف النفايات في المناطق النامية مثل إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وجنوب آسيا، وجنوب شرق آسيا (6-11 كجم)، كما يتم هدر الكثير من الأطعمة في متاجر التجزئة بسبب مشاكل التوزيع والركود.
هذا كله يدفعنا للتساؤل حول منطقية الضغط على الطبيعة ومواردها من أجل إنتاج طعام يتم إهدار ثلثه سنوياً دون الالتفات إلى مستقبلنا المنذر بالخطر، فبحلول عام 2050 م سيزداد عدد سكان العالم بنسبة 33٪، أي إلى 10 مليارات نسمة، وفي المقابل سنواجه قلة في الموارد وشحاً في مصادر المياه والغذاء، الأمر الذي لن يدفع نحو مزيد من الأزمات الغذائية، فقط بل لاختفاء العديد من الأطعمة المهمة من حياتنا!
نفاد المعروض
قد يكون علينا أن نتوقع، ونحن في عالم يوفر كل شيء، أن نذهب في المستقبل القريب إلى متاجر الأغذية فلا نجد طعاماً ما؛ ليس لأنه نفد وسيتوفر قريباً، بل لأنه اختفى من حياتنا للأبد، هذا ما يحذرنا منه العلماء والباحثون، حيث وُضعت العديد من الأطعمة على لائحة المهدد بالانقراض، ومنها أطعمة ضرورية كالبطاطس والموز والقهوة وبعض الحبوب، هناك العديد من الأسباب تقف خلف تلك التهديدات، ففي حالة الموز والحمص والفول السوداني والأرز مثلاً فهي محاصيل تحتاج إلى قدر كبير من المياه، لذلك تواجه زراعتها تحديات خطيرة في ظل نقص المياه وموجات الجفاف التي تضرب العديد من مناطق العالم، أما القهوة والكاكاو والبطاطس فينذر التغير الحاد والسريع في المناخ مع ضعف التربة بفشلها في مناطق زراعتها التقليدية.
الحل الأخير
في وسط هذا المستقبل المنذر بالخطر، تظهر الحاجة إلى البحث عن حل فعال لمشكلات الغذاء، تبرز الاستدامة كحل تنادي به أطراف عدة، حيث تطالب بمراجعة شاملة للنهج الحالي لسياسات صناعة الغذاء لتحقيق التوازن بين الاعتبارات البيئية والاقتصادية والاجتماعية في جميع أنحاء سلسلة التوريد، وضرورة تقديم المعلومات والحقائق لتعزيز ابتكار الحلول البديلة للمستقبل، ومن المهم في هذا الصدد تقييم الممارسات الزراعية وعمليات تجهيز الأغذية والتوزيع وإدارة النفايات والتعبئة والتغليف، وتحليل كل من دورة الحياة وسلامة الأغذية وصحتها، ووضع العلامات البيئية، ورؤية المستهلك والطلب في السوق، وتطوير المنتجات والممارسات في شركات تصنيع الأغذية وتجارة الأغذية بالتجزئة والخدمات الغذائية.
تطالبنا الاستدامة بالتفكير في المستقبل والحد من إهدار الطعام وتوسيع استخدام الطاقة المتجددة على حساب المصادر التقليدية للطاقة، وتوظيف المعلومات والأبحاث الجارية عن التغير المناخي في تغيير السياسات الزراعية بما يناسب تحديات المستقبل.
"كان الغذاء دائماً يشكل حياتنا، وسيظل يفعل ذلك، والميراث الذي سنتركه لمن سيرث الأرض سيتحدد بالطريقة التي نأكل بها الآن؛ حيث يرقد مستقبلهم في سكاكيننا وشوكاتنا وأصابعنا". كارولين ستيل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.