"يا شمس يا شمّوسة، خُدي سِنّة الجاموسة، وهاتي سِنّة العروسة".
خطوة واحدة، أحياناً نصف خطوة، أحياناً بلا حركة تماماً، بكلمة خرجت بلا وعي، بكلمة خرجت غصباً، بكلمة لم تخرج من الأساس، تحدث أكبر الأشياء، خصوصاً تلك التي يمتدّ أثرها ويكبر مع الإنسان، فتجعله يكره ويبعد ويقلق، ويخاف.. ويخاف، بشكل مزمن.
حدث هذا في إجازة نهاية العام الدراسي الأول من المرحلة الإعدادية، كنا نتجهز لترك القرية ونجهز بيتنا الجديد لأن يكون مؤهلاً -ولو بالحد الأدنى- لاستقبالنا. أبي وأمي في غرفتهما وقتَ القيلولة، أنا وأخي في الغرفة المنفصلة التي كنا نستقبل فيها الضيوف بشقتنا القديمة.
وكان الصوتُ الذي يتردد في عقل الصِّغار حاضراً، ذلك الصوت الذي يغري الأطفال مثلاً بترك المنزل والحبو خارجه في طريق الشارع بينما تمرّ شاحنة ضخمة بسرعة جنونية، وهو نفسه الذي يهمسُ للطفل الذي تقبض عليه يد أمه في زِحام محطة القطار فيُفلت يدها في لمح البصر، ويبتلعه الزحام ليركب قطاراً متجهاً إلى بلدٍ لن يعود منه، وهو نفسه الصوت الماكر، الذي يغري الأطفال بالقبض على النار وشرب "البوطاس" وخزق عيون بعضهم بحجة اللعب، هو الصوت الشيطاني نفسه الذي يوسوس لطفلٍ لا يعرف شيئاً عن الفضيحة أو الحَرَج؛ فيشدّ بِنطال زميله أمام كل فتيات الفصل، ويمنحه سبباً للخجل متى أراد واحداً.
همس هذا الصوت لأخي الأكبر، فصار يغريني بضربه، وأنا أرفض، وكان قد بقي من أعمال سباكة البيت الجديد ماسورة يبلغ قطرها نحو 30 سم، فصار يلحّ عليَّ بأن أضربه ليجرّب "تكنيك صدّ الركلات المباغتة بالماسورة"، وكان الصوت قد وصل لي، وأغراني بما أغرى به أخي.
هل تتذكرون تلك الخطوة الواحدة التي تمنح الإنسان أسوأ كوابيسه ويلازمه أثرها حتى نهاية العمر؟
رفعت رجلي مباغتة تجاه رأسه، أما هو فقد وجّه طرف الماسورة إلى فمي مباشرةً. لم تسقط قطرة دم واحدة، ولم يتورّم وجهي، ولم أشعر حتى بألم الضربة، حتى ظننتُ أنني تفاديتها أو أنها أصابت الحائط أو شبحاً ظهر من بُعدٍ زمنيٍّ آخرَ خلفي، لكنني لطمت وجهي عندما رأيت نصف سِنّتي يرقد على الأرض بجانب الماسورة!
لحسن حظي أن الفتاة التي كنت أعجب بها في ذلك الوقت، كانت قد انتقلت من المدرسة إلى مدرسة أخرى في بلد آخر، ولن تراني على تلك الحالة البهلوانية المضحكة، تصوروا: وَلد قبيح في الصف الثاني الإعدادي، في وجهه شارب أخضر، وملابسه واسعة وغير مهندمة، وفوق كل ذلك: بسنّة مكسورة!
كان قد آلمني أنها لن تكون موجودة في بداية العام الجديد، لكن هذا الألم تحوَّل إلى شعور دفين بالارتياح، أنني لن أكون مضطراً إلى أن أكتم عنها ابتسامتي، أو أن أظهرها لها؛ فتخاف.
كانت طريقة أبي في التربية صارمةً في ذلك الوقت، قرر أنني لن أرى طبيب الأسنان ولن أفعل شيئاً في تلك السنّة لأتعلَّم الدرس، لأربع سنوات بقيتُ أتعلم الدرس، حتى استوعَبه كل شبر في جسمي وكل تلفيفة من تلافيف عقلي، وكل ركن قابعٍ في وعيي، زملائي أيضاً علّموني جزءاً من الدرس، وعلّموا ذكريات المرحلة ما قبل الجامعية بعلاماتٍ جارحة كمخالب نمر، حتى إنني أكره أن أعود إلى تلك الفترة كما أكره أن أُقذف في النار.
كبرت واكتشفت أنها لم تكن طريقة أبي، وإنما كان جيبه، الذي كان ينزف ويئنُّ تحت وطأة تجهيز البيت الجديد ومصاريف البيت والدروس والديون، ويبدو أنَّ توقفي عن الابتسام لأربع سنوات لم يكن من الأهمية بمكان ليضاف إلى تلك القائمة.
الشمس الشمّوسة التي أخذت سنة الجاموسة، لم تُعِد لي سِنّة العروسة، ولا شيئاً من جمالها، وإنما منحتني كابوساً يوميّاً أو شبه يومي، تتساقط فيه أسناني كما يتساقط الثمر الجافّ الشائخ، منحتني أيضاً واقعاً حذِراً، أتحسس فيه فمي بعد كل قضمة و"أُمقّق" نظري في الملعقة؛ خوفاً من أن تكون خارجة بسِنّة أو بجزءٍ منها، أرفع لساني -لا إراديّاً- كل خمس ثوانٍ؛ فقط لأتأكد أنها مازالت هنا، سنّة كاملة، بهيئة طبيعية، وأن الهواء المصاحب لخروج حرف الفاء، يجدّ مصدّاً ومانعاً طبيعياً من أن يتسرب للخارج.
لكنني أذكر تماماً ذلك اليوم الذي عُدت فيه من عند طبيب الأسنان، بسنَّةٍ كاملة، وفمٍ يجرؤ على الابتسام، لم أتوقف عن لمس فمي طوال اليوم أو مطالعته أمام المرآة، ربما استيقظت يومها في وسط النوم أكثر من مرة؛ لأتأكد أن ما حدث حقيقي فعلاً وأن سِنّتي كاملة لأول مرة منذ 4 سنوات وأنني في الغد، في الصباح الباكر جداً، يمكنني أن أمشي بالشارع، وأشتري الخبز والخضار والجرائد، وأنا.. أبتسم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.