لقد تربينا صغاراً على حواديت أمنا الغولة وأبو رِجل مسلوخة والنداهة وعروس البحر… والغولة من الأساطير المشهورة والمرعبة، وتتميز بأنياب حادة وجسم آدمي وقدميها مثل قدمي حمار.
وهي مشهورة في قصصنا الشعبي بأنها الساحرة الشريرة ذات الوجه القبيح والمخيف التي استعملت سحرها في التفريق بين الشاطر حسن وست الحسن والجمال، وكنا نقول في بداية حدوتتها "لولا سَلامك قبل كلامك لأكلتُ لحمكَ قبل عظامك".
ويكبر الطفل ويدلف إلى مرحلة البلوغ والشباب ولا ينسى أمنا الغولة وأخواتها، بل تظل أمنا الغولة تترعرع وتكبر وتتضخم في جوانب نفسه حتى تصل إلى أحجام ديناصورية رهيبة!
حينما كان يخاف الطفل فإنه يأوي إلى أمه؛ فهي الحضن الآمن له من أمنا الغولة ومن كل الأخطار. والمرأة إذا خافت فإنها تأوي إلى حضن زوجها، أما إذا خاف هو فليس أمامه سوى حضن زوجته، وربما تكون زوجته هي أمنا الغولة في حياته؛ فحينئذ، فإنه يفر منها إلى صديق أو زميل أو جار أو حتى جارة… ودائماً ما يتذكر هذا الزوج التعيس عندما يرى امرأته تلك قول جحا لتيمورلنك حينما سأله عن اللقب الذي يجب أن يتميز به مثل المعتصم بالله والمستنصر بالله وغيرهما من الخلفاء العباسيين، فقال له جحا: "أعوذ بالله"!
(1)
أمنا الغولة في أقنعة متعددة
تأتي أمنا الغولة للناس في صورة الخوف من المرض، والخوف من المجهول، والخوف من المستقبل، والخوف من الشيخوخة، والخوف من الفقر، والخوف على مستقبل الأبناء…
والعجيب أنها تأتي للبعض للخوف من الحياة ذاتها!
والأعجب أنها تأتي في صورة الخوف من الخوف!
والصور المختلفة لأمنا الغولة تجعل الفرد لا يقدم على الحياة ويظل متوقعاً حتى لا يتعرض للأذى أو للفشل أو للإحباط.
فالخوف من العدوى بالأمراض المختلفة شيء جيد، ولكن حينما يتحول الخوف من الأمراض إلى مرحلة عدم مصافحة الناس بحجة الحرص على عدم التعرض للمرض فهذا الخوف ليس بخوف فطري، ولكنه خوف مرضي يصل للبعض بغسل يديه مئات المرات بعد السلام على مريض، ويصل إلى حد أن المرأة العجوز ذات الثمانين ربيعاً تخاف أن تجلس على كرسي جلس عليه رجل قبلها حتى لا تحمل من حيوانته المنوية، فهذا الخوف وصل لمرحلة "الوسواس القهري" حيث تصول وتجول أمنا الغولة في نفس هذه العجوز.
والقلق من فشل صفقة تجارية شيء مقبول، أما ترك تشغيل الأموال والخوف والرعب من الإقدام على التجارة بسبب ذلك الفشل في الصفقة الأولى فهذا "خوف مرضي" تتربع فيه أمنا الغولة على نفس وعقل هذا التاجر أو رجل الأعمال.
والقلق من الفشل في أول تجربة انتخابات لمجلس الشعب صحي، أما الجبن والرعب من دخول معركة الانتخابات بعد ذلك فهذا هو "الخوف المرضي" الذي لا ينبغي عليه الإنسان الذي استخلفه الله في الأرض ليعمرها وينطلق ليشَّيد الحضارة.
وطبق هذه القاعدة على من يتقدم في لجنة الامتحانات ولجنة اختيار موظفين في أي مجال من المجالات، أو أي موقف من مواقف الحياة.
وطبق هذه القاعدة أيضاً على الحاكم المستولي على السلطة بالغصب والانقلاب والتقتيل الشديد، أو طبقها على أي ديكتاتور، فإنك تجد أمنا الغولة تصرخ في قلبه وينداح صراخها في جنبات نفسه؛ لذلك تجده دائماً يمشي وهو خائف من ظله، ويمشي والحراسة المشددة وراء ظهره بالرغم من نعته (بالدكر) (والمخلص)، وتجده دائماً يسبح في عرقه، وتجده ينطق الكلمات بطريقة غريبة؛ كأن ينطق حرف الصاد سيناً وتصير كلمة (صحيح) (سحيح)، ويقول (عسير) بدلاً من (عصير).
ويضع حرفاً مكان حرف آخر فمثلاً كلمة (قد) وهي كلمة سهلة جداً ولا تزيد عن حرفين يتيمين جاءا بجوار بعضهما، فإنه يضع حرف الدال قبل القاف وتصير الكلمة (دق)!… وكل هذا الإقلاب للحروف، ليس من ضعف مخارج الحروف عنده كما يقول معارضوه وإلا كان معتوها، إنما من الخوف والاضطراب والقلق الضاربين بأطنابهما في جنبات نفسه وأنفس كل الحكام الطغاة في كل العصور.
(2)
ماذا لو خاف منها هؤلاء؟
ولو كانت أمنا الغولة متغلغلة في نفوس المصلحين والزعماء والمغامرين والمكتشفين من العلماء لتوقفت وتكلست حركة الحضارة في الأرض من زمن بعيد، ولم نكن وجدنا آباء المسيحية الأوائل وقد نشروا المسيحية في أصقاع الأرض، ولم نجد دين الإسلام قد انتشر في الدنيا كلها على يد الصحابة الأجلاء وأتباعهم، ولم نجد انتصاراً ساحقاً للمسلمين -الضعفاء في العدد والعدة- على أكبر إمبراطوريتين عالميتين شريرتين في ذلك الوقت؛ الإمبراطورية الفارسية، والإمبراطورية الرومانية اللتين كانتا تحكمان العالم في عصريهما.
ولو كانت أمنا الغولة متغلغلة في نفس عباس بن فرناس ما قام بأول محاولة للطيران في العالم، وما اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى، وما اكتشف ووليم جيلبرت الكهرباء، وما اخترع جويلمو ماركوني الراديو، وما اخترع توماس إديسون المصباح الكهربائي بعد حوالي مئة محاولة فاشلة، وما اخترع ألفريد نوبل الديناميت، وما اخترع تشارلز باباج فكرة الحاسوب، وما وجدنا أحمد زويل مكتشف الليزر الذي يصور في زمن مقداره الفمتوثانية، ولا اكُتشفت أمريكا على يد المغامر كريستوفر كولومبس.
وغيرهم الكثير والكثير من علماء ومصلحي العالم كجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والشيخ حسن البنا والشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد الخضر حسين والشيخ عبد الحليم محمود والشيخ عبد الحميد كشك والشيخ الشهيد أحمد ياسين أيقونة المقاومة الفلسطينية.
ولو كانت أمنا الغولة متغلغلة في نفوس الشباب، ما طارت شعلة ثورة الياسمين في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 في تونس الخضراء إلى ثورة اللوتس في 25 يناير/كانون الثاني 2011 في مصرنا الحبيبة إلى ثورة 11 فبراير/شباط في اليمن السعيد إلى ثورة 17 فبراير 2011 في ليبيا المجاهدة إلى ثورة 15 مارس/آذار 2011 في سوريا المناضلة.
وكلها ثورات شباب، وللشابات قبل الشباب دور عظيم في ثورات الربيع العربي وفي مقاومة الانقلاب في مصر منذ 3 يوليو/تموز 2013 وحتى الآن وقد استشهد واعتقل منهن الكثير.
أما أجيال الستينات والسبعينات والثمانينات -ما عدا جيل انتفاضة الحجارة في فلسطين المحتلة- فكانت (أجيال الخوف) بالمقارنة بجيل الشباب في الربيع العربي.
(3)
أمنا الغولة والفوبيا
وتأتي أمنا الغولة للبعض في صورة رهاب ((Fobia (فوبيا) من أشياء متعددة وغريبة.
وفيما يلي أنواع من أمنا الغولة أو الفوبيا التي تصيب البعض:
الخوف من الظلام Achluophobia، الخوف من الأشباح Phasmaphobia، الخوف من الأماكن المرتفعة Altophobia، الخوف من الحيوانات Zoophobia، الخوف من آراء الآخرين Allodoxaphobia، الخوف من الأطباء Latrophobia، الخوف من الموت Thanatophobia، حتى الهواء تأتي أمنا الغولة في صورة فوبيا منه ومن المواد التي ربما تكون ضارة ومتعلقة به Aerophobia!
وتوجد فوبيا أخرى مثل:
الخوف من البرق Astraphobia، والخوف من الرعد Bronophobia، والخوف من القطط Ailurophobia، والخوف من الزواحف مثل العقارب والثعابين والسحالي Herpetophobia، والخوف من النار Pyrophobia، حتى الأرقام يوجد الخوف منها Numerophobia!
وإذا تفهمنا الخوف من الأماكن المغلقة Claustrophobia، فكيف نفهم الخوف من الأماكن المفتوحة Aeroacrophobia؟!
إن أمنا الغولة تدلف بغموض إلى الجهاز العصبي منذ الطفولة المبكرة وهي تقول بفحيحها "لولا سَلامك قبل كلامك لأكلتُ لحمكَ قبل عظامك"، وتظل كامنة حتى إذا جاء التعرض لموقف ما مثل مواجهة الجمهور أو مواجهة حيوان أو الظلام أو أي سبب يستدعي أمنا الغولة من مكمنها الخفي في دياجير النفس البشرية، فإن الجهاز العصبي يفرز موادّ مثل الأدرينالين وتوأمه النورأدرينالين اللذين يطيران بسرعة خرافية في جهاز الإنترنت الخاص بالجسم محدثاً ثورة عارمة.
وتطير أيقونة الثورة من عضو إلى عضو تجعل القلب يرجف بقوة وبخوف، وشعر الجسم يقف مذعوراً، والأطراف تبرد وترتعش من الرعب، والغدد العرقية تسح بالعرق الغزير من الذعر، ومجاري الجهاز التنفسي تضيق من الفزع، والمعدة تصرخ ألماً من الهلع، ولكن تصرخ مواد أخرى بالجهاز العصبي لكي توقف هذه الثورة الجامحة أو هذه المهزلة بتعبيرها، فيرد عليها النورأدرينالين وتوأمه بأن اسكت، وفي النهاية يصرخ المريض من الرعب الرهيب ويتشنج ويسقط مغشياً عليه.
إن أمنا الغولة من المتوقع أن تأتي في صورة أمرض (نفسجسمية) Psychosomatic ، أي أمراض بالجسم سببها نفسي مثل Irritable Bowel Syndrome متلازمة القولون العصبي وقرحة المعدة وارتفاع ضغط الدم وآلام أسفل الظهر والصداع المزمن والكثير.
إن حقيقة أمنا الغولة هي أننا نصنعها بعقولنا ونغذيها وننميها في عقلنا الباطن وعلينا مواجهة أنفسنا بذلك حتى نستطيع أن نقضي عليها بإرادتنا. قال تعالى في سورة الرعد في الآية 11: [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ].
أنت مخلوق قوي فتغلب على مخاوفك بإرادتك. اكسر حاجز الخوف. دمر أمنا الغولة في دياجير نفسك. توكل على الله واقتلها.
إن الله قد أقسم بالنفس البشرية في القرآن الكريم لعظم خلقها، قال تعالى في الآية 7 من سورة الشمس: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا]؛ لذلك من السهل أن نتغلب على أمنا الغولة في نفوسنا بعد الاستعانة بالله عز وجل، بالتكيف من هذه المخاوف، وبالتنويم المغناطيسي مع المتخصصين، وبجلسات التأمل والاسترخاء واليوجا، وأخيراً الأدوية المهدئة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.