"نحنُ البشر على الرغم من فزعنا من الدماء، فإننا نستمتع برؤيتها أحياناً، ونجد لذةً غريبةً في مشاهدتها، وإن أنكَرْتَ لي هذا آلاف المرات، فبإمكاني أن أقول لك إنك تهلع إذا حدث عِراك بالأسلحة تحت منزلك، ولكن مع هذا ترغب في رؤيتهم وهُم يهاجمون ويُسيل بعضهم دماءَ بعض، بل إنك ترغب أن يحدث هلعك وخوفُك ذاتيهما وأنت تشاهد فيلم رعب، وأنتَ تنتظر اللحظة التي سيخفق عندها قلبك بشدة من الخوف، وكل هذا بإرادتك، كل هذا يُعَدُّ ضمن غرائزك وشهواتك، فعلى الرغم من أنك إنسان، دائماً تحبسُ حيواناً ما بداخلك، وأحياناً تُطلِقه".
في روايتي "قميصُ يوسف"، تحدَّثتُ عن الطبيعة البشرية الأغرب بالنسبة لي، فمن الطبيعي أن تسمعَ أنَّ إنساناً يحبُّ أحدَهم، يحبُّ الموسيقى، يحبُّ الحدائق، أو حتى يحبُّ أكياسَ الإندومي! لكن أن يُحبَّ الإنسانُ خوفَه، هذا ما لم نسمعْ بهِ من قبل.
"منذ بداية الخليقة والإنسان شغوفٌ بالمجازفة، يريدُ دائماً أن يُجرِّب احتمالاتٍ جديدةً لأشياءَ غريبةٍ لم تكن مألوفةً من قبل، أن يواجه تلك المجازفة في بحثِه عن الطعام، عن أماكنَ أفضلَ للعيش، عن حلفاءَ جُدُد".
– فرانك ماك أندرو (اختصاصي علم النفس البيئي في جامعة نوكس جاليسبرغ).
أتتذكَّرُ لحظةَ ولادَتِك؟ بالطبع لن تتذكَّر، لكن أنا أتذكَّرُ لحظةَ ما بعد ولادتنا جميعاً، أتذكرُ لحظتَكَ الناجحةَ وأنت تجازفُ لاكتشافِ كتلةٍ دُهنيةٍ غريبةٍ في فَمِك، ينسابُ منها اللبُن ليُغذِّيك، أتذكَّرُ أيضاً لحظتَك الفاشلةَ وأنت تتحسَّسُ بيديكَ شعلةً ضوئيةً أو حتى كوبَ شايٍ بالنعناع، فإما أن تحترقَ يداكَ وإما تكون محظوظاً ويُنقِذُك أحدُهُم لتجرب مرةً أخرى فيما بعد.
إذاً، لماذا نستمر؟ في عام 1970 لم يحدث شيءٌ أتذكَّرُه، لكن بالتأكيد كان يوجد بشرٌ أيضاً يحبون نبضاتِ القلبِ السريعة، أن تتعرَّقَ أيديهم، وأن تنقبِضَ مِعَداتهم، وتتلاحَقَ أنفاسُهم، يحبون شعورَ الخوف، الذي هو في الأساس مُوَلِّدٌ للهروب، أو للمواجهة، الخوفُ ردة فعلٍ أمامَ المخاطر.
لماذا نستمتع بالخوف؟
ولكن لمَ الحُب؟ لماذا ننجذِبُ إلى مشاهدةِ فيلمِ رعبٍ أو عراكٍ في الحارة؟
يقول علماء النفس، إن دماغ الإنسان يكتسبُ بمرور الوقت قدرةً على تحويلِ شعور الخوفِ إلى لذةٍ ومتعة، لعلاجِ عديدٍ من الاضطرابات النفسية المتعلقة بالقلق، الرهاب، والحصر النفسي.
المسؤولُ العضويُّ عن هذا جزءٌ من الدماغِ يُسمَّى "اللوزة العصبية (Amygdala)"، وهي العضو الرئيسي المسؤول في الدماغ عن لذة الخوف، ذلك لأنها الجزءُ الذي يُشكِّلُ ويُخزِّنُ الذكريات المرتبطة بالعواطف.
الدماغُ ذكي، فإذا عَلِم أنه لا توجد مخاطرةٌ في التعرض للأذى، كما يحدثُ لك وأنت تشاهد فيلم رعب، فإنه يختبرُ لذةَ اندفاع الأدرينالين، ويُدمِن الدوبامين (هرمون السعادة) الذي يُفرَز أثناء شعورِكَ بالخوفِ أيضاً، وهذا ما أثبتَتْهُ دراسةٌ أُجْرِيَت في جامعة ميشيغان في عام 2008.
التلذُّذُ من الخوف قد يجعلُكَ أيضاً تضحك من فرط السعادة! يعتَبِر العالِم "سين بروشوفت" أن الضحكَ هو أفضل وسيلةٍ دفاعيةٍ تجاهَ المخاطر؛ لأنه يُثبِتُ قدرتَك على تجاوز الموقف، كقدرتك مثلاً على العدولِ عن مُشاهَدة فيلم الرعب، وترك الأبطال يواجهون مصائرهم في أي لحظة، كأنك تقول: "مع أنفسكم أنتم"، لأنك تدرك أنك مُحاطٌ ببيئةٍ آمنة. وفي هذا تقول اختصاصية علم الاجتماع مارجي كير إن شرطَ التلذُّذِ بالخوف، تأكدُ المرءِ أنه بأمان، ولن يموت.
أرى أن كبْتَ تلذُّذِك بالرعب يَضُرُّك؛ شاهدتُ فيلم "Fight Club" منذ بضعة أعوام، وكانت فكرة الفيلم إنشاء نادٍ للقتال السرِّيّ، أي يأتي إليه الناس ليتقاتلوا فقط، بشرط ألا يُقَتل أحد، فقط قتالُ ضربٍ مُبرِح! وكان العاملُ المشترك بين البطل "إدوارد" وكل رواد النادي أن جميعهم لا يستطيعون مواجهةَ خوفهم، ولا يستطيعون التلذذ به، وكان هذا النادي بمثابة مُتنفَّسٍ لذلك الحب الغريب!
نحن نُنفِّسُ عن أنفسنا بأبسطِ الوسائل الآمنة، كأفلام الرعب. الأمر لم يتوقف عند مشاهدة الأفلام فقط، إذ إنَّ عديداً من أنواع الرياضة أوجِدَت لتُلبِّي تلك اللذة (لذة الخوف)، على سبيل المثال لا الحصر: القفز الحر بالمظلات (Skydiving)، والقفز بالحبال (Bungee Jumping).
يمكننا الاعتراف بأن الخوف مفيدٌ في حالتهِ الطبيعية، والتلذذ بهِ أصلاً قد يكون وسيلةً لراحتك النفسية، بل ويُستَخدَم هذا الشعور لعلاجِ بعض الأمراضِ النفسية.
في النهاية، الإنسانُ ليس شريراً، ولكنه بطبيعة الحال يُحبُّ أن يَخاف، إذ الخوفُ كائنٌ بغيض، منبوذ، لذلك فإنه يستحقُّ الحب، والتعاطفَ معه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.