"رب امنحني السكينة لأتقبل الأشياء التي لا أستطيع تغييرها، والشجاعة لتغيير الأشياء التي أستطيع تغييرها، والحكمة لمعرفة الفرق بينهما".
دعاء السَّكينة الذي لطالما صادفتني قراءته في العديد من الأفلام الأجنبية التي أدمن مشاهدتها، وهو على بساطة مفرداته عظيم المعنى، رائع الأثر، والحق أن الدعاء لدى سماعه للوهلة الأولى قد وقع من نفسي موقعاً خاصاً، وافق شيئاً ما في توجهي أو نظرتي للحياة، ما جعلني أبحث في أصل صياغة تلك الصلاة، حيث اتضح أنها تعود لمعلم ألماني- أمريكي يدعى رينولد نيبور، الذي كان قساً وكاتباً شهيراً أيضاً فيما بعد، وقد عاش في الولايات المتحدة تزامناً مع فترة الحرب العالمية الأولى، ولعل ملازمته للموقف العام حينذاك من كونه أمريكي الإقامة يعاني مثلما يعاني الأمريكيون من ويلات الحرب، وتستثير أصوله الألمانية في نفسه اعتراضه ضد ما يحدث جراء سياسات هتلر في بلده الأم، ذلك الاعتراض المقترن بالعجز عن اتخاذ أي موقف، فلعل تلك المتلازمة هي البذرة التي شكلت روح تلك الصلاة المميزة بوجدانه، التي يتضح في مضمونها الشعور الواضح بالحيرة أمام الواقع السيئ والعجز أمام الرغبة الملحة في التغيير.
وحدث بعد ذلك أن انتقلت الصلاة لتصبح شعاراً لجمعية للمدمنين المجهولين، فقد نشرت إحدى صحف نيويورك نعياً في يوم يتضمن تلك الصلاة، فوقع النعي بمحض الصدفة في يد روث كيركليز سكرتير جمعية المدمنين المجهولين، الذي أعجب به كثيراً، وما لبث أن عرضه على رفيقيه روبرت سميث وبيل ويلسون، مؤسسَي تلك الجمعية، فراقت لهما الفكرة وقاما بطباعته وتوزيعه على بقية أعضاء الجمعية وأصبح من الطقوس الثابتة لأعضاء الجمعية في افتتاح جلسات الدعم والعلاج النفسي، بتلاوة هذه الصلاة تعبيراً عن معاناتهم الشخصية، ورغبتهم في تغيير واقعهم نحو الأفضل.
لطالما أحببت المغيرين
التغيير هو القانون الوحيد الثابت في الحياة، ولا عجب، فالله سبحانه وتعالى يغير ولا يتغير، وهو القائل في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
وبالنظر في ديننا نجد أن القرآن الكريم قد أولى الأهمية لفكرة التغيير في نطاق النفس أولاً وأخيراً، حتى وإن كان هذا التغيير يهدف لصالح الجماعة والمجتمع، فإذا غيّر الإنسان ما بنفسه تغير المجتمع وكل شيء، أما إذا تقاعست النفس عن التغيير للأفضل فلا تنتظر خيراً يرجى منها ولا من البيئة المحيطة.
ولا شك أن تغيير الفرد لحاله، رغبةً منه في تحسين أوضاعه هو أجدى وأكثر نفعاً، وهو من الأشياء التي تضع الإنسان في مواجهة مع قيمه، وتدفعه لفلترة معاييره الشخصية، وأن طول ملازمة المرء لمكان ما أو مجموعة معينة من الممكن أن يعرضه لخلل في المعايير الذاتية، بحيث تصبح موافقة للوسط الذي اعتاد ملازمته والانتماء إليه، لا نابعةً من الضمير الحي والعقل الناقد المحلل، فينتهج الخطأ دون اعتباره خطأً، أو يرى ظلماً ولا يهتز له، أو يعتمد التنمر كأسلوب مع الضعفاء أو مع من هم أقل منه مرتبة دون أن يشعر بفداحته، لا لشيء إلا لانتمائه إلى مجموعة تدعمه وتوافقه على أفعاله، بل وتستحسنها منه.
ونخلص من ذلك إلى أن التغيير عملية تتطلب شيئاً من المعرفة عن ذواتنا والكثير من الثقة بالنفس، فالناس يفضلون الأمور التي اعتادوها، أما فكرة التغيير في حد ذاتها فتواجه عديداً من التحديات، أو كما قال سيدني هاريس: "مشكلتنا أننا نكره التغيير ونحبه في نفس الوقت، فكل ما نريده أن تظل الأشياء كما هي، ومع ذلك أن تصبح الأشياء أفضل!".
وأغلب خوف البشر من التغيير ليس نابعاً منه كمبدأ، ولكن هو الخوف من معاداة السائد والسباحة عكس التيار، الخوف من المقابلة بالرفض والانتقاد، أما الذين لا يخشون في أخذ المبادرة واتخاذ المواقف لومة لائم، مَن لا يرتبط لديهم التقدير الذاتي بالرفض أو القبول من الناس، الذين يسعون دائماً خلف التغيير كفرصة للتعلم وخوض للتجربة وحصد المكاسب، والذين ينظرون لأخطائهم باعتبارها محولاً لاتجاهات جديدة ونتائج جديدة، أولئك هم الذين ينتهجون منهج "الكنز في الرحلة".
في كل مرة تضيق الدنيا وتتكاثف الهموم والضوائق، ولا آنس من نفسي مطلباً سوى السكينة التي هي أعظم ما يجود به الله على كل مهموم، أتذكر دعاء السكينة هذا وتقفز مفرداته إلى عقلي، أتمتم به لله فأجد نفسي لا شعورياً أتجاوز الجزء الخاص بالسكينة والصبر على ما لا أستطيع تغييره، وأتوجه إلى الله بكامل قلبي، وأتضرع له أن يجعلني من ذوي الهمة والجرأة، وأن يجنبني مشقة الخضوع ومكابدة التسليم، وأن يمدني دوماً بالعون والمبادرة، ويثبتني بالثقة والقدرة على تغيير ما أكره.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.