توقَّف عن أكل نفسك ولا تحاول التحكم في كل شيء.. كيف تتأقلم مع حياة قاسية؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/15 الساعة 15:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/15 الساعة 15:41 بتوقيت غرينتش
iStock

أغلبُ الذينَ أعرفهم، يعرفونَ خوفي الشديد من الحشراتِ، خصوصاً العناكب، ويعرفونَ أيضاً أنّني أستفرغُ كلّما ركبتُ سيارةً أو حافِلةً لمسافة طويلة، في البدايةِ، اعتقدتُ أن هذا الخوفَ طبيعيٌّ، فكلّ الناس يخافون من العناكبِ، وملايينُ الناس يشعرونَ بالغثيانِ في الطريق، فكلّما علمتُ أنّي سأسافرُ؛ مُباشرةً أشعرُ بتوتر في معدتي. ولم يخف ما بي من هلعٍ إلّا عندما لمستُ ذاتَ يومٍ عنكبوتاً لم أرَهُ، فتقزّزتُ منه، وعلمتُ بعدها بأنّ لمسها، وحتّى لدغها ليسَ خطيراً كما اعتَقدتُ، فقد كنت أتخيّل بأنّ عضّة واحدةً منها ستوقِفُ تنفُّسي، وستقضي عليَّ! أمّا الدّوارُ في الطريق، فذاتَ يومٍ كنت سأسافرُ لحضورِ مُناسبة مهمّة، وحينما أقَلَّني ابنُ خالتي للمحطّة قلتُ له:

–       أشعرُ بالغثيانِ منذ الآن!

فقالَ لي:

– لقد تجاوزتِ هذه المرحلة، من المفترض ألّا تتعبي بعدَ المسافاتِ الطويلة، والكثيرة التي قَطَعتِها!

وقد كانَ ردُّه عادياً، لكنّه كانَ صفعةً بالنسبة لي، فمعه حق، في كل مرّة يُعاد نفس السيناريو، ألم تتأقلم معدتي بعدُ؟ والحقّ يُقال، منذ أن قالَ ما قالَهُ، وهضمته، زالَ الغثيانُ من فوره، واستطعتُ أن أنامَ في الطريق حتّى، والذهابَ مُرتاحةً كما لم يحدث معي من قبل.. ومنذ هذا الحوار القصير الذي دارَ بيننا؛ تغيّرت في حياتي أشياء كثيرة، فقد كُنت أولّي تركيزي على أمورٍ لم يكن من المفترض أن أركّز عليها، بل وكانَ من المفترض أن أكونَ، قد تجاوَزتُها، منذ مُدّةٍ طويلة.

حينما تقلقُ من شيءٍ ما، يجبُ أن تنتبهَ إليهِ أكثر، وتعرفَ ماهيته أوّلاً، هل هو شيءٌ ضخّمتهُ ولم يكن يستحقّ أم أنّه شيءٌ ضخمٌ وتراهُ بضخامته، دونَ أن تقزِّمَهُ فتجعل لعدوّكَ سلطةً تخوّل له أن يقضي عليكَ؟ لو سُئلتُ عن أصعبِ سنواتِ عُمري لقلتُ هذه السنة؛ فقد حدثت معي أشياء لم أرغب أن أعترف بها لنفسي، مع علمي الكامل بأنّ الكذب على النّفس أسوأ خداع مُمكن، وبأن لا أحدَ في الدّنيا أقربُ لكَ منكَ، فإن لم تَفهم نفسك وتُمسك بيدها، فهل تنتظرُ من الغريبِ أن يُمسكَ بها أو يُسنِدَكَ، أفلستَ من أرخى قبضةَ يدهِ من يدهِ، فبأيّ وجهٍ قد تنتظرُ من الآخر أن يُمسكَ بيدك؟ وبقدرِ ما قاسيتُ أشياء جديدة أختَبِرُها لأوّل مرّةٍ، تعلّمتُ بالمُقابل أشياء أخرى، فلا يُمكن أن نرى من القمرِ ظُلمته، ونعميَ أبصارنا عن جانبهِ المُنيرِ، وهذه بعضٌ من الأشياء التي تعلّمتها:

1.    الصّبر والإيمان الفعليّ بالقدرِ خيره وشرّه

نرضى بالحياةِ مُستويةً، وما أن تنعرِجَ حتّى نعدِلَ عن طلبها، أو نسعى في طلبها بضيقٍ شديد، وأن تؤمن بالقدرِ، ليسَ أن ترضى بما يسرّك منهُ، وتسخط على ما يضرّكَ -بنظرك القاصر- فلعلّ الضّر الذي أصابكَ كانَ أبسطَ ما يُمكن أن يُصيبَك مقارنةً بما كانَ قد يأتيكَ لو لم يُدفَع عنكَ، فبعدَ كلّ كُربةٍ يأتي الفرجُ، وقد صدق الشاعرُ الذي قالَ: "ثمانيةٌ تجري على الناس كُلِّهم، ولابد للإنسان يلقى الثمانية؛ سرور وحزن واجتماع وفرقة، وعسر ويسر ثم سقم وعافية".

2.    توقّف عن أكلِ نفسك!

هناك مقولة تقول: "إنّ حرقة المعدة لا تأتي مما تأكُلُهُ، بل مما يأكُلُكَ" وبالفعلِ، فإنّكَ تأكُلُ عافِيَتَك بالقلقِ، والخوف من مجهولٍ، أو حتّى الخوف من شيء أمامك، بدلاً من أن نُقوّي العزيمة، ونساعد أنفسنا على المضي قدماً، فإننا نلتهمُ أنفسنا، ونقتلها، تارةً بالكذبِ عليها، وتارةً أخرى بعدم تركها تُواجِهُ ما تُعانِيهِ، وتارةً، حينما نلتهم الماضي، أو بالأحرى: نجتَّر ما فاتَ منه، وتارةً بالبقاء في علاقةٍ سامة.. والأمثلة كثيرة، ولكلّ منّا شيءٌ يأكلُهُ؛ ويعرفه جيّداً، ولم يُبادر بعد للتخلّص منه.

3.    إنّكَ أنفاسٌ مَعدودة

لا يوجدُ في الدّنيا ما قد يضمنُ لكَ بأنّ النّفَسَ الذي تستنشقهُ قد يخرجُ زفيراً، فإننا أنفاسٌ معدودة، ولا ندري متى قد ينتهي رصيدُ أنفاسنا في هذه الدّنيا، ذات يومٍ، قال أستاذ الرياضيات لفتاةٍ اسمها دُنيا: هل تعلمين ما معنى كلمة دُنيا؟ ولماذا نسمّي الحياةَ بـالدّنيا؟ لأنّها دنيئة يا ابنتي، الدّنيا، معناها الشيءُ المُنحطُّ، والدنيء، وفي هذا، حقيقة الحياةِ كلّها، نعم، إنّ الحياةَ دنيئةٌ، ماكرةٌ، ولا ضمانةَ فيها لأحدِ، ولا بقاءَ لحالٍ، ولا لأحدٍ.. وحينما نستوعبُ أننا مجرّد أنفاسٍ، سنفهم أننا غير مخلّدينَ، وبأننا فترةٌ، وضيوفٌ، وسنمضي. ونحنُ كائناتٌ، لن أتعبَ من وصفها بالهشّةِ؛ فكم من وخزةٍ قَتَلَتْ! وكم من قويّ البنيةِ سقطَ مغشيّاً عليهِ بأبسطِ الأمراضِ! وبعدَ كلّ هذا، هل يجبُ على المرء أن يخافَ ما لا يضمنُ حضوره أو بقاءهُ -فيه- حتّى؟

4.    لا تُضخّم الأمورَ

في أخد أفلام الكارتون التي شاهدتها، كانت هناكَ لعنةٌ تقضي على الإنسانِ، وذلك بدخولِ روحه والبحث عن مخاوِفِهِ، فتأتيهِ بأكثر ما يخافُهُ، وتُواجِهه بها، فتجعل منه عدوّ نَفسِهِ، وتضخّمُ كل ما يُقلقُهُ، وبالمثلِ، فإننا ننفخُ آلامنا، أحزاننا، مخاوِفَنا، وحتى أتفهَ الأمورِ، فنجعلها تكبر، فتخنقنا، تقتلنا، تُميتنا، وتنغّص عيشتَنا.. فلا تجعلَ عدوّكَ يمتصّ طاقتكَ، وانتبه؛ لعلَّ عدوّك فيكَ وما تَشعُرُ!

5.    المناعة المُكتسبة من الأذى

حينما نمرضُ بمرضٍ ما، ويُقاومه جسدنا، ونكتسبُ مناعةً منه، حينها لا يبقى عنده وقعٌ على جسدنا مرّةً أخرى، وبالمثلِ، فإننا نكتسبُ مناعةً من الأذى، مهما كانَ غيرَ مُبرّر، أو مُتوقَّع، فإننا نكتسبُ المناعةَ منه، لذلك؛ لا تَحزَن على ما أصابَكَ، ولا تتباكَ بشفقةٍ، فهناك مثلٌ يقول: "الضربة اللي ما تقتلك، تقوّيك".. ولن تتوقّفَ الحياةُ عن صفعك بدروس كثيرة، فتعلّم منها، وأصلح ما ترى، وامضِ، قُدُماً، بخبرةٍ من عُصِرَ، ولا تنس الدَّرسَ، فكن حذراً! فالحياة لا تتساهلُ مع رسوبك في دروسها، ستعيدُ نفس الدروسِ، وتختبرك في وضعيات مُطابقة، حتّى تتعلَّم، فانجح، ولا تقع في فخّ الإعادة! فلا تُلدَغ من نفسِ الجحر مرّتين!

6.    لا بأس بألّا تكونَ بخيرٍ

من الطبيعيّ جدّاً ألا تكونَ بخيرٍ في بعض فتراتِ حياتِكَ، ولا بأس بأن تنهارَ، وتصرخَ، ولا تكبتَ ما فيكَ، فلا يُمكن أن تكون بخيرٍ دائماً، هي أيامٌ مُختلطة ومُتذبذبة، وليست خطاً مُستقيماً،  ولا بأسَ بألّا تكونَ بخير، وبأن تطالب بوقتٍ لنفسك، وبأن تطلب المساعدة من أيّ شخص إن وجدت أنك بحاجة ماسة لأن تتحدث مع أحد.

7.    حياتُكَ ليست صنع يدك، فلا تُحكم قبضتك دائماً

ثق دائماً بأنّكَ تمضي في الاتجاه الصحيح، وبأنّك في المكانِ الصحيح، لا تقل: لو أنّني كذا أو كذا، فللهِ حكمةٌ ومقاديرُ دقيقة، وكلّ شيء قد خُلِقَ بقدر. فلا تجزع حينما تنفلتُ الأمور من قبضتك، ودعها تمضي، فإن قاومتَ حبلاً يشدّك فإنهُ سيوَرّمُ يدكَ، ولن يزيدك الشّد إلا تورّماً، فاستسلم إن رأيتَ نفس الإشارات تردّك لطريق تُقاومه، ولا تُقاومِها؛ فإن ركضتُ لمكانٍ، ورُدِدتُ منه لمرّات كثيرة، لمكان آخر، فلماذا لا أجرّب هذا المكانَ الذي رُدِدتُ إليهِ؟

لا تدع أفكارك تقتلُك، مثلما قتلتني أفكاري لمرّاتٍ كثيرة، لكنّني السبب، فالسياجَ الذي اختَرَقَتُهُ، كانَ رثّاً، وبسرعة تمّ اختراقُهُ، خذ الجانب الإيجابي من الأمور، مهما كانت، وفي أسوأ ما يمكن أن يَحدث، لا بأس بأن تبدأ من الصّفر، لكن قويّاً، لا وَهِناً، مؤمناً بأن القادم أجمل، وليسَ موقناً بأنها بداية المآسي والأحزان. وللأبدِ: لا تتخيّل شيئاً قبلَ حدوثه. فكم بكيتُ من تخيّل أشياء لم تحدث، لسنواتٍ، على الوسادة، على الطريق، وفي كلّ مكانٍ، ولسنوات طويلة، كنت خائفة من قدومها، في كلّ مرة أقول: لعلها اليوم، بل، لعلّها غداً.. حتّى وجدتُ أنّني أترقّبها، إلى أن صرختُ في نفسي ذاتَ يومٍ قائلةً: وإن حَدَثَ ما أتخيّله، ماذا سيحدث؟ لقد حدث في مخيّلتي لمرات كثيرة، فلماذا يخيفني للآن أنه قد يحدُث؟ ومنذ ذلك اليوم، وأنا أقول لكلّ ما يُثقلني ويخيفني: وماذا سيحدث؟ فيصمتُ رأسي، وأنعمُ بنومٍ هنيٍّ.

كنزُ الإنسانِ في صحته، وما دامت صحّتك بخيرٍ، وأهلك بخيرٍ، فصدّقني، لا شيءَ يُخرّب العيش أكثر من القلق والوسواس والوهم القاتل، عش اليومَ بيومه، مُحتسباً لأمرِ الغدِ، متأكداً من أنّ ما شاءه الله كانَ، وما لم يُرده لن يكونَ! ولا يمكن أن تُعطى مُصيبةً فوقَ طاقَتِكَ، ما يُصيبُكَ، تجَهَّز لَهُ، ولا يأتيكَ بقسوةِ الدفعةِ الواحدة، وكآخر وصيّة؛ ضع نصبَ عينيكَ هذه الآية، وتذكّر ما مررتُ منه وكيفَ نَجَوتَ: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" الآية 12، سورة يونس.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حفصاء عمراوي
طالبة وكاتبة مغربية
طالبة فلسفة ومهتمة بمجالات الأمومة والطفل والمجتمع
تحميل المزيد