ليتمكن النظام العالمي من إحكام سيطرته خلق حالة نفسية عامة عند كل ضحاياه. هذه الحالة تسمى الاغتراب. ولئن اختلفت تعاريف الاغتراب تاريخياً ومن مجال إلى آخر فإن ركن التخلي عن شيء ما لفائدة طرف مقابل رابح يبقى النقطة المشتركة بين كل المفاهيم. حسب الماركسية، عند الاغتراب يغيب الوعي ليعيش الإنسان ممزقاً بين آماله وواقعه. ولأن الوعي ذو أهمية محورية فإن الاستفاقة من الاغتراب والقطع مع مسبباته مؤلمان فعلاً. تهدف محاولة الكتابة هذه إلى تبيان الطريقة التي وجد بها الاغتراب طريقه إلينا. مظاهره وإمكانية تجاوزه لنقترب قدر الإمكان مع ذواتنا.
…."لقد أغرقت البرجوازية أقدس انفعالات الوجد الديني والحمية الفروسية ورقة البرجوازية الصغيرة الرخيصة في صقيع الحساب الأناني وحولت الكرامة الشخصية إلى مجرد قيمة تبادل. وأحلت حرية التجارة الوحيدة والغاشمة محل الحرية العديدة المعترف بها كتابة والتي انتزعت بأغلى التضحيات. وباختصار فقد استبدلت بالاستغلال الذي كانت تموهه الأوهام الدينية والسياسية، استغلالاً صريحاً، وقحاً، مباشراً ووحشياً.
لقد مزقت البرجوازية الحجاب العاطفي والتأثر الذي كان يغطي العلاقات العائلية واختزلها إلى مجرد علاقات مالية.
لا تستطيع البرجوازية أن توجد دون أن تثور باستمرار أدوات الإنتاج، إذن علاقات الإنتاج أي مجموع العلاقات الاجتماعية…." البيان الشيوعي
تأصيل المفهوم
يعيش العالم الآن تحت وطأة الاغتراب. تظهر أعراضه في انقسام الإنسان بين حالتين: ما يعيشه فعلاً وما تبتغيه رغباته وآماله وطموحاته أي بين واقعه المادي وماهيته الجوهرية. لئن استشرفت الماركسية الأمراض النفسية التي سوف تنتشر في عصر سيطرة الرأسمالية، فإن لمفهوم الاغتراب سيرورة تاريخية مثل الكثير من المفاهيم. إذ تطور مفهومه بتطور حركة المعرفة في الزمن. الاغتراب أو الاستلاب يعود في الأصل إلى ميدان الحقوق وهو الفعل الذي بموجبه يتخلى الإنسان عن متاع يملكه عن طريق البيع أو الهبة. اقتصادياً استعمله آدم سميث لتوصيف علاقات التبادل. استعمله أيضاً جان جاك روسو في السياق السياسي تحديداً في العقد الاجتماعي. بل كان مفهوماً مركزياً نحو بناء المجتمع المدني. فيعرفه روسو على أساس التخلي الكلي للكل المشترك عن كل الحقوق لصالح الجماعة. ففي المجتمعات البدائية وفي الحالة الطبيعية كان كل فرد حاكماً لنفسه وينزع للسيطرة على الجميع أي حرب الجميع ضد الجميع. فالمغترب يتخلى على حقوقه الطبيعية لصالح المجموعة / الجسم السياسي.
لكن لم يكن لماركس استحقاق الأسبقية في توظيف هذا المفهوم وتطويره نحو بعد فلسفي، بل كان هيجل أول من تحدث عنه في كتابه مبادئ فلسفة الحق. فيقول: يتحول الاستلاب من استيلاب الممتلك إلى استيلاب الإرادة: ضياع الذات في الآخر. بنت الماركسية على نتائج الفلسفة المثالية. تمكن المفهوم الفلسفي الماركسي للاغتراب من استيعاب تأصيل وتحليل كل أبعاد هذه الظاهرة الإنسانية انطلاقاً من الظروف المادية والاجتماعية.
وظف عدة مفكرين آخرين هذا المفهوم في سياقات اختصاصهم لكن كخلاصة يتمحور الاغتراب حول معنى التخلي التنازل أو الانفصال عن شيء يمتلكه الإنسان إلى آخر
الاغتراب بالمعنى المادي
إن المادية الماركسية تبحث في شروط تحقيق الظروف الموضوعية لضمان السعادة البشرية أو على الأقل الرضا على نمط العيش والمستقبل. فكانت قادرة بل الأقدر على استشراف دقيق لوضعية الصحة النفسية والعقلية للبشرية منذ ما يقارب القرنين. لقد كان جلياً لمن وضع أولى لبنات الفلسفة الماركسية أن النظام يسير بنسق حثيث ونية بينة نحو تسليع كل القيم والمفاهيم من سعادة وعلاقات إنسانية ومشاعر بل وحتى قناعات روحانية أو دينية. وكان واضحاً لهذه المدرسة الفكرية انتفاء مقومات السعادة الإنسانية في ظل هيمنة رأس المال، هيمنة آخذة في التجذر والاستقواء. وهذا ما كان فعلاً… إذ إضافة لتعزيز الطبقية، كان الاغتراب النتيجة المباشرة والحتمية التي يشعر بها أغلب من لا يملكون أدوات الإنتاج ورأس المال، العمال والفلاحون، عاملوا الفكر والساعد، وحتى البرجوازية الصغيرة أي مجموع أولئك المجبرين على بيع عملهم المأجور للحصول على ما يغطي بالكاد مصاريف حاجياتهم الأساسية.
يطور المغتربون إحساساً قبيحاً بعدم الانتماء.. بالانفصال عن الغير.. بالتباعد عما يحيطهم من أشخاص أشياء محيط أفكار أو ظواهر.. هي حالة معاناة شعورية لكن غير واعية. لا يمكن أن تكون واعية إذ إن وجودها ينتفي بوجود الوعي بها. إذ إنهم لا يعون رضوخهم إلى إرادة الآخر وخضوعهم إلى وعي ليس لهم. إن الإحساس بالاختلاف والتقوقع حول الذات الحائرة تجربة لا يمكن أن تستثني أي إنسان عاقل حاول إعمال قدرته على نقد وجوده ولو مرة في حياته. هي إذن ظاهرة إنسانية باعتبار النفس البشرية من أفكار ومشاعر مسرح نشأتها وترعرعها وباعتبارها من أهم تأثيرات النظام الرأسمالي الذي لا يستثني إلا أصحاب الثروات.
بسيطرة أقلية على وسائل الإنتاج، أصبحت الأغلبية مجبرة على بيع عملها كسلعة مقابل ثمن زهيد. هذا الثمن البخس يكفي أن يحقق شرطاً وحيداً ألا وهو توفير ما يكفي لمجرد سد الرمق والحفاظ على الإنسان على قيد الحياة دون اعتبار لبقية رغبات تطلعات أو حتى احتياجات العامل.. يظهر هنا الاغتراب من النوع الأول وهو الاغتراب عن المنتوج نفسه. فالمنتوج لا يمثل تعبيراً عن الإنسان أو اختياراته أو أفكاره كما من المفترض أي يكون الوضع مع الأعمال الفنية مثلاً (في الوضع الصحي أي في مجتمع يضمن كرامة الإنسان الأعمال التي يصنعها الإنسان وتعود إليه تعبر عن شخصيته أو حالته. إذ هي تنتمي إليه. وما فعل الصنع سوى إظهار لذلك الجزء منه).
توجد قطيعة كاملة بين المنتوج أو جزء منه والإنسان أي أنه حالما استنفذ طاقة العامل وتجاوز مجاله البصري ليستقر مع مجموعة مرابيح المؤجر تتنافى أي علاقة بينه وبين الأجير. هذا الأخير يكون في أغلب الأحيان غير قادر على اقتناء المنتوج الذي أنتجه. يقول ماركس يصبح العامل أكثر فقراً كلما زادت الثروة التي ينتجها. النوع الثاني من الاغتراب هو الاغتراب عن عملية الإنتاج. أي انتفاء لكل علاقة بين عملية الإنتاج كلها وبين العامل. إذ بتقسيم العمل إلى حلقات واختصار واختزال قدرة الإنسان على التكرار الميكانيكي لنفس الحلقة من مجموع حلقات سلسلة الإنتاج يصبح هذا الأخير غريباً عن عملية الإنتاج. في بعض الأحيان لا يدرك العامل حتى دور القطعة التي ينتجها في المنتوج ككل.
يمثل هذا النوع تقييداً لقدرات الإنسان ونفياً لإمكانية الإبداع بل وتشويها لمفهوم العمل نفسه. طوال ساعات من التكرار الركيك لنفس الحركة أو المهمة يكون هاجس العامل الوحيد هو انتهاء وقت الدوام. ويصبح العمل مصدر شقاء لا يتناسب في أغلب الأحيان مع رغبات أو تطلعات الإنسان.
الاغتراب الثالث هو الاغتراب الاجتماعي الذي يمسّ العلاقات الاجتماعية خاصة العلاقات بين الزملاء في العمل، حيث يطغى الجانب التنافسي بين الزملاء من العمال أو الإداريين أو الموظفين لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المصلحة العامة المشتركة. هذه المصلحة العامة المشتركة لا يمكن إدراكها إلا بتوحد العمال ضد رأس المال. يعزز سوق العمل التنافس بين الأشخاص. وتدعم سياسة الإدارات العدائية بين الزملاء. ما يحدث على مستوى صغير يتوسع ليشمل كل العلاقات الإنسانية الاجتماعية داخل نفس المجتمع وبين الشعوب.
أما النوع الأخير فهو الاغتراب النفسي حيث لا يحس الإنسان بقيمة نفسه ولا بالرضا عن حياته. يولد شعور الوحدة والانفصال والغربة والعزلة اضطراباً في المشاعر والأحاسيس النفسية أو الاجتماعية. من أعراضه القلق التوتر والإنهاك النفسي الخوف من المستقبل. لا يمكن فصل الاغتراب النفسي عن الاغتراب الجماعي. فيعجز الفرد عن اكتشاف معنى حياته وأهدافه ومعنى وجود المحيطين به في حياته.
في حالة الجزر الثوري يكون اتجاه التأثير الغالب بين الفوقي والتحتي هو تأثير البنى الفوقية على البنى التحتية، باعتبار غياب الوعي القادر على تثوير العلاقات المادية ونمط الإنتاج. عندها يسهل فعلاً للنظام الإمعان في إغراق الناس في الجهل وتغييب إدراكهم وتهميش ذاتهم.
الاغتراب هو ما يفعله النظام من تجريد للشخص من ماهية إنسانيته: وعيه، أي حرمانه مما قد يجعله قادراً على استيعاب ظروف وأسباب حريته.
أساليب سيطرة النظام
"لا أحد أكثر عبودية من شخص يعتقد نفسه حراً دون أن يكون حقاً حراً" غويت
"تكيف الإنسان تماماً مع مجتمع مريض ليس دليل صحة جيدة" جدي كريشنامورتي
"إن القناعات أعداء الحقيقة.. وهي أخطر من الأكاذيب" نيتشه
الاغتراب يصف حالات التعاسة الحالية للإنسان جراء تجريده من ذاته ومن ماهيته. يعتقد ماركس أنه كلما تورط العامل في إنتاج الثروة أمعن في الاغتراب. الاغتراب المتطور هو شعور الأجير بالفخر بعملية الاستغلال. ولأن وجود الوعي يهدد استمرارية النظام فإن هذا الأخير يخلق الظروف الموضوعية التي تجعلنا نقبل حالة الاضطهاد والاستغلال. فيبني بذلك جهاز مناعته. كيف ذلك؟ يسعى صاحب وسيلة الإنتاج أو مدير الشركة إلى احتجاز العامل في وضعية تسمح له باستغلال قوة عمل الأجير بموافقة الأجير نفسه. وسيلته في ذلك التأثير والتحكم في جانبه النفسي وله في ذلك عدة أساليب. سنة 1988 كتب نعوم تشومسكي كتابا بالتعاون مع إدوارد هيرمان يفسر فيه الدور الرئيسي الذي يلعبه الإعلام في خلق رضا الشعب وتحويل المواطن إلى أجير مطيع مستهلك مسلوب الإرادة يتحكم فيه النظام.
هذا الكتاب يدمر الفكرة القائلة بأن الإعلام يعمل كقوة مضادة للنظام. إذ إن أغلب وسائل الإعلام متذيلة منبطحة. ما يسعى الإعلام إلى ترويجه: بضائع وسلع جديدة تغرق الأسواق / مثال المرأة ذات الجمال المثالي / مثال الرجل الرياضي… كل ذلك بخلق حاجة لم تكن أصلاً موجودة وبخلق سوق استهلاكية قادرة بسبب غياب الوعي على تحقيق مكاسب مادية للأقلية.
إن التعامل مع وسائل الإعلام يجب أن يكون مرفوقاً بحس نقدي عالٍ جداً وباحتراز شديد. يظهر ذلك خاصة عندما يتعلق الموضوع بالأطفال والمراهقين غير القادرين على تمييز درجة حرفية البرامج ومستوى المضمون. في زمان كثرت فيه البرامج الرخيصة والمحتويات البذيئة مقاطعة القنوات يمثل حلاً مناسباً.
اغتراب الشباب / الشابات
يعيش جل شباب البلدان النامية في حالة اغتراب وهم لم يبارحوا أرض الوطن.. بل لعل ذلك هو سبب اغترابهم. لكل منهم عالمه الخاص يسكن كلاهما الآخر. ذلك المكان أو الإطار الوحيد الذي يحس فيه أنه يشبه نفسه حقاً.. أنه أصيل نفسه وأنه وفي لذاته. تردي الأوضاع في بلده تجعل من شبه المستحيل إمكانية الحفاظ على الاستقرار النفسي. فيعيش فصلاً بين ما يصبو إليه وما يجده.. بين ما ترنو إليه نفسه وما يوفره له الواقع. ما يزيد تعميق هذا الشعور هو وعيه تماما بأن هنالك من يتخذ قرارات محله.. من يتحدث نيابة عنه.. من يسطو على أحلامه ويسرق طموحاته. الأدهى في الوضعية هو ترويج النظام وفي إطار العولمة إلى أمثلة لنجاحات شباب استطاعوا تحدي الواقع المفخخ ليصنعوا "قصص نجاح". في حين أن هؤلاء لم يكن النظام ليسمح لنجاحهم المشبوه بأن يرى النور لو كان يهدد مصالحهم أو لو تجاسروا على نقد النظام في أي وجه من وجوهه (الطبقية، الفساد..) هذه الأمثلة عوض أن تحفز الشباب/ الشابات، تخلق لديهم إحساساً بالدونية واستنقاص الذات لأن طريق النجاح هو فعلاً ملغم ويتطلب حتى تنازلات.
كانت انتفاضة تونس في 2010 لحظة فارقة ونقطة تحول في حياة الكثيرين.. لأن حالة الاغتراب لا تتزعزع إلا بعناصر خارجية. فكل الشكر والاعتراف لانتفاضة "البرويطة"!
كم كان مخيفاً أن تتداعى من حولهم المراجع التي سلموا بقدسيتها. كم كان مرعباً أن تتهاوى كل المقاييس أو على الأقل أغلبها والذين خلقوا عالمهم وكيفوا نمط تفكيرهم استناداً إليها. لأن كل الحيطان التي ارتكزوا عليها في أول عهدهم بالحياة وهم أشبه بيرقة ضعيفة فضولية قد انهارت فوقهم، لتترك خيبة وخراباً. هي في الحقيقة ليست لحظة استفاقة محددة، إذ تبدأ تلك الأسيجة التي بنوها حولك في التشقق مع كل كذبة أو خدعة جديدة تكتشفها ليحصل أخيراً الانهيار الكبير. لكن العامل المحفز الأصلي واحد. أما الخلاصة الأخيرة فهي بلا شك صفعة.. هي خلاصة يقودك وعيك الشخصي وحده إليها لا غيره.. هذا الصراع المضني هو دليل القطع مع الاغتراب الذي يختفي حالما تقرر ترجيح الوعي على الخضوع والخنوع. وكم هي مؤلمة صفعة الاستفاقة، ألم وإن خف شيئاً فشيئاً بمرور الوقت فإنه كان الثمن الحتمي لقطع سلاسل الجهل والتضليل والانطلاق بخطا حذرة ومترددة نحو وضع مجهول مفتوح على كل الاحتمالات. تدل على ذلك خيباتك الجديدة في المعسكر البديل (وهذا يتطلب معرض حديث مستقل).
أنت لم تكن لتكلف نفسك شقاء النقد وعناء البحث عن البديل لولا أن السائد متعفن لدرجة التقزز، سائد تباركه مجموعة من الأفكار والمعتقدات والمبادئ والمسلمات البالية والعتيقة التي أكسوها حلة القدسية. أن معركة تحرير الوعي هي المعركة الأولى التي يجب أن تخوضها. لتنجو لا خيار لك سوى إعادة بناء نفسك على أنقاض الحطام لا بترميم الشقوق. وفي طريقك نحو النجاة، حين لا تزال محل تنازع بين الرفض والخضوع، احذر من السقوط في محاولات ترميم الشقوق. فإذا
استسلم لها وعيك، سقط مرة أخرى في الاغتراب بتعريفه حالة لا واعية من الشعور بعدم الانسجام. غير أن السعادة لا يمكن أن تتحقق إلا بوعي جماعي منظم. أي أن التوافق ولو الجزئي بين ما تصبو إليه النفس وما يعيشه الفرد مرتبط أشد الارتباط بالوضع العام للبلد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.