بعيدا عن تقديم التصورات الجاهزة والتعميمات الاعتباطية يمكن أن نعتبر التفشيل من أبرز ما يعاني منه الذين يسعون لتحقيق طموحاتهم وبلوغ النجاح بشرف في مجتمعات العالم الثالث، ولا نقول باطلا إن هذا السلوك المنحرف سائد ومتغلغل في تلك الأوطان أكثر من غيرها، فالواقع فاضح وهو خير مؤكد لقولنا، ولا يمكن الاعتراف بنقيض ما هو متجسد في حياتنا التي نجد فيها صنفا بشريا خطيرا له حساسية مفرطة تجاه المؤهلين للنجاح والتميز المبهر، ورفض المتميزين في عالمنا لا يتم التصريح به علانية بشكل مباشر، لكن لمجرد ما أن يظهر شخص مبدع مؤهل لنجاح متميز في أوساط مجتمعاتنا إلا ويبدأ التفشيل المتعمد وسوء التقدير له، لأنه في اعتقادهم بأن هذه هي الطريقة المثلى لمحاربة كفاءته، والوقوف أمامه بشتى الوسائل اللاإنسانية لإجهاض تميزه ومنع بزوغه في سماء النجاح والتألق.
يمر الإنسان بمواقف حياتية عديدة يدرك بها أنه يعيش مع بعض البشر الخبثاء بطبعهم، لكونهم يكرهون فكرة نجاح غيرهم ويسعون بأي طريقة لتفشيل الآخر المتفوق بقدراته ومحاولة تشويه موصفات الناجح التي يتصف بها، بل ويصل الأمر بهم إلى حصر كل شي لأنفسهم ولحاشيتهم التي يستخدمونها لإنكار وجود المتميز عنهم والعمل على طمس إمكانياته وإخفاء مهاراته، بالرغم من أنهم في غنى عما يطمح له إلا أنهم مقهورين منه ومن كل مستحق للنجاح، ربما يعود ذلك لشعورهم بنقص مستبطن؛ لهذا لا يريدون رؤية المتميز عنهم ناجحا ولا يودون حتى أن يذكر أحد محاسنه في حضرتهم، كما أنهم يُحمِّلون دائما مسؤولية التعثر للطرف الذي مورس عليه التفشيل بتدليسهم وكذبهم المنمق، لكي يحولوا بينه وبين النجاح فيعتبره الآخرون بالمحصلة فاشلا، ثم يرضخ بعد ذلك للواقع المر ويسلم نفسه للتفشيل، رغم أن ذلك لا يعكس البتة حقيقته ولا يلائم مؤهلاته ولا يتوافق مع ما يأمله.
ويحصل التفشيل المتعمد بشكل واضح عندما تكون لديك الفرصة للاختبار مع غيرك على أساس أنه يوجد الاستحقاق المنصف كما روج لذلك، ولكن في الحقيقة تلك الفرصة شكلية، لأن نتائج ذلك الاختبار محسومة سلفا على أساس باطل غير أخلاقي، وفي الأصل ليس هنالك تنافس شريف لنيل ثمار الامتحان بنزاهة وشفافية، ولا يمكن أن تحصن الحقوق وتعزز المصداقية إلا حينما يكون جميع المتبارين على قدم المساواة من دون أي تميز وتحيز، ليبرهن كل واحد من هؤلاء المتبارين عما يحمله من قدرات ومهارات، فيكون بذلك التسابق شريفا لا تُعرف نتائجه إلا بعد إجراء الاختبار وتقييمه بشكل عادل لا محاباة فيه لأي متبار، أي أنه لا مجال هنا للمحسوبية والوساطة، فالكفاءة هي الحكم والدافع للتفضيل بين الممتحنين واختيار الناجحين منهم.
إن الخطأ الجسيم الذي يقع فيه الكثيرون بعد تعرضهم للتفشيل هو التنازل على عزة النفس وقيمها العليا، فيخاطرون بما لا ينبغي المساس به مقابل نيل نجاح غير شريف، مع أن التفشيل يبقى من السلوكات المشينة التي اعتدنا على وقوعها بكثرة في مختلف مراحل حياتنا، إلا أنه ليس من الطبيعي أن يستسلم المرء وينبطح لمن يمارس عليه ذلك السلوك الجائر، فطريق النجاح الشريف محفوفة بالمخاطر، لذا فالوصول إليه من دون الوقوع في خسائر قيمية ومبادئية من الأمور التي لا يقوى على فعلها سوى الشرفاء، وبالخصوص الذين لهم الجرأة الكافية على التحدي النبيل بعيدا عن استخدام الوسائل الانتقامية، فالجبار هو حسبنا ووحده القادر على أن يأخذ لنا مظلمتنا ممن حرمنا من حقنا جورا وعدوانا.
ولا ينكر أحدا أن التفشيل أمر سلبي يحمل حيفا كبيرا قد تصل عواقبه إلى درجة قتل روح النجاح لما فيه من ضرر ناجم عن إجبار الآخر على التعثر والإحساس بالعجز والفشل من دون وجه حق، بالرغم من امتلاكه لمقومات النجاح ومواصفات التميز والتفوق، ففي لحظات التفشيل يكون الإنسان المفشل ضعيفا نفسيا مكسور الخاطر من الصعب بمكان انتشاله من تلك الحالة، ويزيد احتمال سقوطه في فخ الفوضى والانهيار التام، إلا إذا كان صاحب فكر إيجابي ينظر إلى كل ما يحصل له على أنه خير وإن كان في ظاهره شر، وهذا بالذات ما يدفعه ليكون أكثر تميزا وجدية خصوصا حينما تطفو القيم الفاضلة لتطغى على كل ما هو سلبي، الشيء الذي يساهم كثيرا في تجاوز ذلك الإحساس السيء الذي يعقب التعرض للتفشيل، وهذا بالذات مما يعين المرء على الرفع من قيمته باستثمار إمكانياته وكفاءاته التي تم تجاهلها ومحاولة قبرها رغم مشروعية ما يطمح له ويبتغي نيله عن جدارة.
ومما لا يدعو للشك أن التفشيل يؤدي إلى فقدان معيار الكفاءة والنزاهة في ظل الاعتماد على الحزبية والمحاصصة والأساليب غير الشرعية الأخرى لنيل النجاح، الأمر الذي يرفع من منسوب الفساد ويزيد من حجم الخسائر التي تأتي نتيجة التخريب الذي يحصل للجانب الأخلاقي، لهذا فحرمان الإنسان عمدا من بلوغه لشيء يستحقه من أكبر أسباب ضياع القيم الأخلاقية، لكن ما ينبغي معرفته أنه ليس للتفشيل ذنب في التمكن من الإنسان وإخضاعه ليصبح منهك القوى مستسلم لواقعه، وإنما يرجع الأمر إلى الشخص بذاته، لأنه وحده المسؤول عن قناعاته ورؤيته للأمور؛ فمثلا الذي له رؤية تفاؤلية في حياته ينظر إلى التفشيل من زاوية مغايرة، ولربما قد يتعلم منه ما لم يتعلمه من النجاح لأنه لا يبصر غير الإيجابية في حياته.
إن الذي يملك مقومات النجاح المتميز هو في الأصل إنسان متفائل لا يعرف اليأس مطلقا، ومن المعروف أن أغلب الناجحين العظماء استطاعوا تجاوز التفشيل الذي تعرضوا له بل وكان دافعا قويا لهم للمضي قدما لكتابة قصص نجاحهم المبهر؛ أي أن معظمهم شهد في مسيرة نجاحه إخفاقا متعمدا قل أو عظم، ولا يتوقف الأمر هنا فأهم رموز النجاح تعرضوا للحيف والظلم ولم يتقاعسوا، لكونهم ليسوا من الذين يعلنوا استسلامهم لمجرد إحساسهم بالعجز وعدم التمكن من نيل مرادهم في ظرف زمني معين بل واصلوا المسير وهم أكثر ثباتا وقوة وإيمانا في إمكانياتهم، ويكتسي النجاح طابع العظمة كلما جاء بعد التفشيل من دون ما أن يكون ذلك سببا في إدخال المتعرض للتفشيل في عالم اليأس، لأنه يملك نظرة إيجابية تجعل ما تعرض له وقودا لتنمية كفاءاته والتطوير من مهاراته؛ أي أنه يتوفر على قدرة فعالة تمكن من تحويل الطاقة السلبية التي يخلفها التعرض إلى التفشيل لقوة تحفيزية تمكنه من الزيادة في قيمة مؤهلاته وحجم إبداعاته المتميزة.
ويمكن القول بأن العقلية السطحية الأحادية النظرة في التفكير تجعل تعرضك للتفشيل سبب لتراجعك عن طموحاتك، في حين أن الذي يبصر بعمق الأمور التي تحدث له ومن زوايا متعددة لا يزيده التفشيل إلا قوة وصمودا رغم تبعاته القاسية، لهذا يظل الطموح شيئا جميلا حين يكون للمرء نظرة ثاقبة، وإن حاولوا تفشيل طموحه وإبعاده عن مبتغاه في النجاح يبقى متمسكا به حتى يتحقق، فما التفشيل إلا فرصة لبناء شخصيتك من خلال إدراك حقائق كثيرة كنت تغفل عنها وتغيب عن وعيك، بالإضافة إلى اكتساب مناعة ضد الإحباط الشديد، لتكون بعد تعرضك للتفشيل قادرا على النهوض لبلوغ النجاح بشرف.
ومن كل ما ذكرنا يظهر أن تقبل التفشيل صعب جدا عند الكثيرين لأنه ظلم لا يغتفر، لكن الأصعب من ذلك أن تنهزم أمامه وتصاب بفقدان القدرة على المواصلة في طريق النجاح وتخطي العوائق الذهنية والانطلاق بخطوات ثابتة ومدروسة، لهذا ينبغي عليك أن ترحب بالتفشيل وتعتبره مجرد موقف ودرس حياتي، لما له من دور كبير في تطوير أدائك نحو الأفضل، فلا تلم نفسك عند التعرض له، واعلم أن طريقة تعاملك معه هي التي ستساعدك في تجاوز عواقبه الوخيمة على النفس، واكتشاف مهاراتك الخفية وتنمية قدراتك، بعد إصلاح مواطن الخلل والتغلب على المعيقات.
والأمر المفروغ منه أن الذي يتعرض للتفشيل المتعمد يُمنع من بلوغ النجاح الذي يحق له الوصول إليها أكثر من غيره، لكن رغم ذلك يتحتم عليه ألا يقف عند هذا الحد لكي لا يرجع بخفي حنين، وإنما عليه أن يسلك مسارا آخر يوصله إلى نيل النجاح بشرف، فالهدف واحد والمبادئ ثابتة، ولا يكون استبعاده لفكرة مصالحة من كانوا سببا في تفشيله أمرا سلبيا، لأنه صار من الذين لا تنفع معهم محاولات جبر الضرر والاعتراف بالظلم الممارس عليهم، لهذا تجده ماض في طريقه الشريف لبلوغ النجاح بعيدا عنهم، ووصل لما لا يمكنه أن يصله لولا تفشيلهم المتعمد له، كما أنه يدرك أنه لا قيمة للأشياء التي تصل بعد أن تكون ميتة أصلا في قلوبنا، أهم ما في الأمر هو حصول تلك الأشياء في وقتها، التوقيت هو الذي يعطيها القيمة أو ينزعها منها.
والذي يلزم معرفته أنك في هذه الحياة قد تعيش واقعا لا يمت إليك بصلة ولا علاقة له بما تحمله من قدرات ومؤهلات، وبالرغم من أنك مجبر على العيش على ذلك النحو في ظل المتاح لك إلا أنه من غير الممكن أن تسمح لنفسك بتجاوز الحدود المبادئية والقيمية، لكي تظل حياتك التي تعيشها شريفة وبعيدة عن كل ما يجعلك منسلخا من القيم الأخلاقية ومتجردا من إنسانيتك، لهذا لا تدع مجالا للتفشيل ليكون سببا في وقوعك في ذلك وإن أحسست بالتهميش والإقصاء، فعزيمتك أقوى من أية محاولة لقتل طموحاتك، وإغلاق أبواب الأمل والتطلعات التي تجعلك تعيش حياة متفائلة يطبعها توهج عطائي متميز، وإن كان ذلك لا يمثل الواقع الذي تحلم به ولا يناسب إمكانياتك العالية ولا يشفي غليل كفاءاتك ولا يرضي حتى نصف طموحاتك، فلا تفسح الطريق للنواقص والعقبات لتهيمن عليك وتجعلك عاجزا وغير قادر على تجاوز التفشيل الذي تواجهه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.