لماذا يفعل الناس العاديون أشياء مروعة؟ هذه المشكلة حيرت العلماء لعدة قرون. فعلى سبيل المثال ، قضى اللاهوتيون المسيحيون الأوائل وقتًا طويلاً للغاية في محاولة التوفيق بين فكرة وجود إله خير كلي القدرة، يمكنه مع ذلك أن يسمح بوجود الشر، بإختصار، معضلة الشر من بين الموضوعات التي أثارت وتثير الجدل في كل الأديان وجل الفلسفات لدى العديد من الحضارات والثقافات عبر الزمن.
لا يزال الجانب المظلم من الطبيعة البشرية يزعجنا ، على الرغم من أننا نميل في الوقت الحاضر إلى البحث عن المزيد من التفسيرات، لكن ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية ، قدم وجهة نظر مزعجة للغاية للفساد والشر الذي يمكن للبشر أن يغرقوا فيه، وأيضا لكمية الأحقاد والضغائن المترسبة لدى كل هؤلاء الرؤساء والقادة في ذلك الوقت.
كان أحد النتائج المؤثرة للبحث – أو ربما البحث عن الذات – الذي تلا الحرب العالمية الثانية هو مفهوم "تفاهة الشر" "The banality of evil"، الذي صاغته المنظرة السياسية حانا أرندت Hannah Arendt (1906- 1975) بعد مشاهدتها لمحاكمة ضابط القوات الخاصة النازية أدولف أيخمان عام 1961، وقد تحوّلت تغطية أردنت لمحاكمة أيخمان، وهو مسؤول نازيّ كان متخفيّاً في الأرجنتين، إلى كتاب مثير للجدل، أعلنت وجوهٌ صهيونيّة ويهوديّة موقفاً معادياً له قبل صدوره، والكتاب موسوم ب "أيخمان في القدس: تفاهة الشر" "Eichmann in Jerusalem: A Report on the Banality of Evil" . وهذه المحاكمة تجسد فكرة أن الأفعال الشريرة ليست بالضرورة من قبل الأشرار، بدلاً من ذلك، يمكن أن تكون ببساطة نتيجة لطاعة البيروقراطيين للأوامر بإخلاص.
تم دعم هذا المفهوم من خلال دراستين نفسيتين سيئتي السمعة: تجارب الصدمات الكهربائية لستانلي ميلجرام Stanley Milgram ( 1984-1933) على الطاعة والانصياع أو الإذعان للسلطات التي قدمها خلال الستينات من القرن العشرين خلال عمله في جامعة ييل، وكذلك تجربة سجن ستانفورد، وكلاهما أثبت أنه يمكن بسهولة دفع الناس العاديين إلى القيام بأعمال فظيعة، لم تكن الاستنتاجات مقبولة عالميا في ذلك الوقت. ومع ذلك ، أصبحت تفاهة الشر هي التفسير السائد في أواخر القرن العشرين لمشكلة الفظائع الجماعية، كما أن جاذبيتها واضحة: فقد قدمت في الوقت نفسه تفسيراً لأسوأ جرائم القرن بينما تبرأت الغالبية العظمى من الجناة، وأصبحت الرعب الذي تعرضت له ألمانيا هتلر والاتحاد السوفياتي الستاليني إلى حد كبير مسؤولية قادتهم.
ببساطة، فإن مفهوم تفاهة الشر، يقدم لنا تفسيراً لما يقوم به الجلادين في العديد من الأنظمة الاستبدادية والشمولية، فالجلاد يخضع للعديد من القرارات البيروقراطية، التي تجعل منه أداة بيد المستبد، لذلك فالعديد من الجرائم التي يتم ارتكبها كالابادات الجماعية والتعذيب في السجون…إلخ، يمكن فهمها بشكل مغاير لو تم الاطلاع على الوثائق السرية، التي تمنح الباحثين القدرة الأكبر لي فهم معضلة "الشر" ومكانزيماته.