كثيراً ما نشعُر بعد مرور دقائق من تناول الطعام بشعور قوي بالخمول والإرهاق، فنبدأ في التثاؤب والجلوس بتكاسُل في مقاعدنا لحين زوال هذه الحالة.
ورغم بساطة الأعراض، فإنها قد تسبب الانزعاج للبعض وتعيقهم عن أداء وظائفهم الحياتية بشكل طبيعي، خاصة إذا ما وقعت أثناء النهار، مثل راحة الغداء خلال ساعات العمل مثلاً.
حالة "النعاس بعد الأكل" تلك، والمعروفة أيضاً باسم "غيبوبة الطعام"، قد تكون مؤشراً على وجود مشكلة صحية معينة، سواء في الأجهزة الحيوية أو بسبب مرض مزمن لم يتم الكشف عنه بعد.
كذلك قد يعمل الإحساس القوي بالتعب بعد الأكل كإنذار اعتراض من الجسم على مكونات ومحتويات الطعام الذي تناولناه للتو، أو إعلاناً منه عن حاجته لعناصر غذائية أخرى.
السكريات والكربوهيدرات المكررة
بحثت دراسة أجرتها جامعة مانشستر عام 2006، بعنوان "آلية جديدة لشرح تأثير الجلوكوز على مستويات اليقظة" في حالة النعاس بعد الطعام، خاصة عند تناول السكريات والكربوهيدرات.
ووجدت الدراسة أن ارتفاع نسبة الجلوكوز في الدم نتيجة تناول الأطعمة عالية السكر يثبّط الأوركسين، وهو ناقل عصبي تنبيهي يتم إنتاجه في المخ، ويتحكم في مستويات اليقظة والانتباه في الجسم.
وعندما تتحلل السكريات البسيطة والكربوهيدرات المكررة في أطعمتنا كالخبز والمعكرونة وغيرها، وتتحول إلى جلوكوز، يؤدي ذلك إلى مزيد من التعب المفاجئ.
من ناحية أخرى، تتعامل عملية الهضم مع الكربوهيدرات المعقدة والأطعمة الثقيلة بشكل أبطأ لصعوبة تفكيكها، ما يستلزم المزيد من الطاقة في المعدة وبالتالي المزيد من التعب في باقي الجسم.
لذلك يُنصح دوماً باستبدال الكربوهيدرات المكررة مثل الخبز الأبيض بالكربوهيدرات الغنية بالألياف، مثل خبز الحبوب الكاملة وخبز القمح غير المكرر.
غيبوبة الطعام بسبب الالتهابات
يعتقد خبراء التغذية والصحة أن أحد الأسباب المحتملة الأخرى لشعور بعض الناس بالتعب بعد الوجبات يتعلق بالالتهابات في الجسم.
وفي بحث بمجلة JNeurosci الأمريكية لعلم الأعصاب والأبحاث عام 2011، اتضح أن السيتوكينات الالتهابية -مثل عوامل نخر الورم TNF وانترلوكين 1 بيتا المعروفة أيضاً بمولد الحمى في كريات الدم البيضاء- تحدُّ من مادة الأوركسين المعززة لليقظة والانتباه في الجسم.
وبالتالي فإن الجسم المصاب بمثل تلك المحفّزات قد يعاني بصورة خاصة من غيبوبة الطعام والإجهاد البالغ بعد الأكل، ويمكن تحديد ذلك فقط من خلال الكشوفات الطبية إذا ما كانت أعراض الإجهاد غير طبيعية لدى المصاب.
حساسية الطعام قد تكون السبب
قد يعاني بعض الأشخاص من الحساسية تجاه بعض أنواع الطعام، ويصابون بالتهابات من مكونات معينة في وجباتهم، إذ يمكن أن يؤثر عدم تحمل الطعام والحساسية على الهضم ووظائف الجسم الأخرى، ما يسبب بدوره الإعياء بعد الأكل.
وبحسب موقع WebMD للمعلومات الطبية، تُصاحب حساسية الطعام أعراضٌ حادة أو مزمنة أخرى، بما في ذلك اضطراب الجهاز الهضمي، والأمراض الجلدية، والصداع المزمن أو الصداع النصفي والتغيرات المزاجية الحادة.
وتحدث تلك الأعراض في الغالب تجاه الحبوب والطحين الأبيض ومنتجات الألبان، وهي تستلزم مراجعة طبية متخصصة لمعالجتها وتحديد النظام الغذائي الأنسب لها.
بخلاف تلك الأسباب، ينبغي التحقق من مستويات فيتامين B12 وD وE والمغنيسيوم والنحاس والسيلينيوم والزنك، لأن سبب التعب البالغ نتيجة عملية الهضم قد يكون بسبب فقر الجسم من عناصره الأساسية، وعدم قدرته على العمل بالشكل الصحيح، وفقاً لموقع Medical News Today الطبي.
نوعية الطعام المُستهلك قد تصيبك بالخمول
الشعور بالإجهاد بعد الطعام يحدث كذلك بسبب نوعية العناصر التي يهضمها الجسم وتجعله ينتج المزيد من السيروتونين، وهي مادة كيميائية تلعب دوراً محورياً في تنظيم المزاج وتنظيم دورات النوم واليقظة في الجسم.
ويساعد حمض أميني يسمى التربتوفان، والذي يوجد في العديد من الأطعمة الغنية بالبروتين، على إنتاج السيروتونين في الجسم، وكذلك تساعد الكربوهيدرات على امتصاص التربتوفان في الجسم.
لهذه الأسباب، فإن تناول وجبة غنية بالبروتينات والكربوهيدرات قد يجعل الشخص يشعر بالنعاس والإجهاد، بسبب الهرمونات التي تم ضخها.
ويوجد التربتوفان في الأطعمة الغنية بالبروتين، مثل: سمك السلمون، الدواجن، البيض، السبانخ، البذور، الحليب والأجبان. فيما تشمل الأطعمة التي تحتوي على مستويات عالية من الكربوهيدرات: معكرونة، أرز، الخبز الأبيض، الكعك والبسكويت، والذرة والحليب والسكريات والحلوى.
ووجدت دراسة بمجلة Nutrition الغذائية عام 2019، على سائقي الشاحنات، أن أولئك الذين يتناولون وجبات غنية بالخضراوات والدهون الصحية مثل زيت الزيتون يميلون إلى الشعور بنعاسٍ أقل بعد تناول الطعام عن أولئك الذين يتناولون وجبات غنية باللحوم والدهون والألبان.
الوجبات الضخمة والشعور بالتخمة
تناول وجبات كبيرة بدوره يعتبر أحد أكبر المحفزات على الشعور بالخمول بعد تناول الطعام.
وتشير أبحاث أجرتها جامعة كاليفورنيا عام 2016، أن حجم الوجبة هو "مُسبب أساسي للنعاس بعد الأكل"، لكن المفاجأة التي توصل إليها البحث أن النوم قد يساعد بطريقة ما على الهضم السليم.
إذ يعمل النوم على تغيير الطريقة التي يمتص بها الجسم عناصر الطعام. وبالتجربة على الحشرات والحيوانات، مثل ذباب الفاكهة والفئران، اتضح أنه بعد تناول المغذيات الممتلئة بالسكريات والبروتين أن أمعاء الكائنات الحية في المختبر عملت بشكل أفضل وأسرع عند دخولها في النوم.
غيبوبة الطعام تصيب الحيوانات والحشرات أيضاً
الظاهرة الغريبة موجودة لدى الحيوانات والحشرات وليس البشر وحدهم إذن.
وأكد قسم علم الأعصاب في معهد سكريبس الأمريكي أن تواتر هذا السلوك في الكائنات المختلفة يشير إلى كونه مهماً من ناحية ما.
ولفتت ورقة بحثية للقسم إلى أن الحيوانات والبشر على حدٍّ سواء لديهم "إشارات يقظة" مدمجة، تبقيهم يقظين ومنتبهين عند الشعور بالجوع لمساعدتهم في تحديد مكان الطعام والحصول عليه أو اصطياده.
ويترتب على ذلك أنه بمجرد أن يأكل الإنسان والحيوانات، تتبدد إشارات اليقظة لديهم وتُستبدل بمشاعر التعب.
خطوات للتقليل من حدوث ظاهرة غيبوبة الطعام
من أهم خطوات تقليل الشعور بالنعاس بعد تناول الطعام وفقاً لموقع WebMD:
تناول كميات قليلة وبشكل متكرر خلال اليوم بدلاً من تناول وجبات كبيرة على فترات متباعدة. إذ يساعد تناول الوجبات الخفيفة كل بضع ساعات على الحفاظ على مستويات الطاقة وعدم الشعور بالإرهاق.
الحصول على قسط جيد من النوم خلال الليل أمر ضروري، لمساعدة الجسم على العمل بصورة سليمة. ويتضح وفقاً للأبحاث السالف ذكرها أن الشخص الذي يحصل على قسط كافٍ من النوم ليلاً يكون أقل عرضة للمعاناة من غيبوبة الطعام بعد الأكل.
المشي وبذل المجهود خطوة لا غنى عنها، ويمكن لممارسة التمارين الرياضية الخفيفة أثناء النهار، خاصة بعد تناول الطعام بساعتين، مساعدة الناس على الشعور بتعب أقل واستحضار النشاط والحيوية في الجسم.
التعرض للشمس وتعديل ساعة الجسم البيولوجية، وجدت دراسة أجريت عام 2015 وفقاً لـMedical News Today، أن تعرُّض الناس لأشعة الشمس بعد الغداء يقلل من شعورهم بالتعب خلال اليوم، ويجعلهم يخلدون للنوم أسرع في الليل.
ختاماً: لا تقلق.. الأمر طبيعي تماماً
التعب بعد تناول الوجبات الأساسية هو مجرد طريقة للجسم في الاستجابة لسلسلة التغيرات البيوكيميائية التي تسببها عملية الهضم. وبعبارة أخرى، هو أمر طبيعي تماماً ما دام لا يؤثر على القدرات اليومية للشخص وحالته النفسية.
وبحسب اختصاصي التغذية الأسترالي روبي كلارك في تصريحات لـ "هافينغتون بوست": "الشعور بالتعب قليلاً بعد تناول وجبة أمر طبيعي تماماً. صحيح أن هناك عدة أسباب تجعلنا نعاني من غيبوبة الطعام، ولكن السبب الرئيسي يرجع إلى عملية الهضم الطبيعية في حد ذاتها".
وأوضح أن ذلك يحدث تلقائياً لأن الجسم يستخدم قدراً لا بأس به من الطاقة للهضم فقط، ما يسحب الطاقة من الوظائف الأخرى للجسم كالبقاء منتبهاً على سبيل المثال، لذا لا تقلق إذا شعرت بالنُّعاس والخمول بعد الوجبات الأساسية، خاصة إذا تناولت على الغداء طبقاً ضخماً من المعكرونة.
يؤكد فريق “عربي بوست” على أهمّية مراجعة الطبيب أو المستشفى فيما يتعلّق بتناول أي عقاقير أو أدوية أو مُكمِّلات غذائية أو فيتامينات، أو بعض أنواع الأطعمة في حال كنت تعاني من حالة صحية خاصة.
إذ إنّ الاختلافات الجسدية والصحيّة بين الأشخاص عامل حاسم في التشخيصات الطبية، كما أن الدراسات المُعتَمَدَة في التقارير تركز أحياناً على جوانب معينة من الأعراض وطرق علاجها، دون الأخذ في الاعتبار بقية الجوانب والعوامل، وقد أُجريت الدراسات في ظروف معملية صارمة لا تراعي أحياناً كثيراً من الاختلافات، لذلك ننصح دائماً بالمراجعة الدقيقة من الطبيب المختص.