لا تخلو مائدة الإفطار الشهية المثالية والصحية في الصباح الباكر من عصير البرتقال في مخليتنا جميعاً، فقد كبرنا وأمهاتنا تحثنا باستمرار على شرب كوب العصير كاملاً، لأنه مشروب صحيّ للغاية، مليء بالفيتامينات الأساسية لمناعة جسم الإنسان، خاصةً فيتامين C. فهل عصير البرتقال مفيدٌ إلى هذه الدرجة فعلاً؟
يؤسفنا إبلاغك أن العديد من الدراسات تقول عكس ذلك؛ إذ إن عصير البرتقال المعلَّب ليس صحياً كما نعتقد، كما أن التوقيت الأمثل لتناول وشرب عصير البرتقال ليس في الصباح الباكر. فكيف إذن أقنعونا على مرِّ السنين بفائدة عصير البرتقال دون أن نشك لحظة في أهميته لنا ولأجسامنا؟
كيف نشأت "أسطورة" عصير البرتقال؟ ومَن وراءها؟
تعود الهالة الصحية المنتشرة حول عصير البرتقال إلى الثورة الصناعية التي اندلعت في أوروبا بداية ثمانينيات القرن الـ19 وحتى عشرينيات القرن الماضي. يقول أستاذ الإعلان والدراسات الأمريكية بجامعة واسيدا اليابانية في طوكيو، جوليان سيفولكا: "أدى النمو الهائل بالمدن إلى مشاكل في تنظيف الشوارع وإزالة القمامة والمسائل الصحية العامة". ومع زيادة الكثافة السكانية والمشاكل التي تأتي معها، زاد منتهزو الفرص الذين حاولوا بشتى الطرق استغلال المشاكل الصحية لزيادة ثرواتهم الشخصية.
يقول سيفولكا إنه في أوائل القرن العشرين، كانت جمعية مزارعي الفاكهة بجنوب كاليفورنيا- التي أصبحت فيما بعد، العلامة التجارية البرتقالية الشهيرة Sunkist– تبحث عن طريقة لبيع مزيد من الفاكهة. أدرك المسؤولون عن التسويق الذين عيَّنتهم الشركة، أن المستهلكين عادةً ما يأكلون البرتقال. ومن أجل زيادة مبيعات البرتقال، قدَّم كلود هوبكنز من وكالة الإعلانات Lord & Thomas، حملةً بعنوان "اشرب برتقالة"، بحسب سيفولكا.
في ذلك الوقت، كانت القهوة هي المشروب الأساسي والمهيمن أثناء وجبة الفطور، ولذلك كان الترويج لشرب عصير البرتقال على الإفطار أمراً مفاجئاً وغريباً للناس بطبيعة الحال.
لم يعتمد مسؤلو التسويق في Lord & Thomas على الدعايات المرئية المعتادة فقط من أجل إقناع المستهلكين بضرورة استبدال القهوة بعصير البرتقال، فحاولوا بشتى الطرق إظهار عصير البرتقال على أنه أكثر مشروب صحي ومناسب لوجبة الفطور وأن له قدرة سحرية على حماية الإنسان من الإنفلونزا، التي كانت منتشرة وقتها ومازالت مرضاً شائعاً حتى اليوم، وكافة الأمراض الشتوية عموماً. وحتى في الصيف، يعتبر عصير البرتقال مشروباً مثالياً، لأنه مُنعش ومليء بفيتامين C الذي ينقي البشرة ويغذيها ويمنحها النضارة التي نريدها جميعاً.
ليس هذا فحسب، فقد اعتمد مسؤولو التسويق في الشركة- التي تحوّل اسمها لاحقاً إلى Foote, Cone & Belding- على تشجيع الأبحاث العلمية التي تؤكد أهمية شرب البرتقال يومياً، وأن أي نظام غذائي صحي يجب أن يكون البرتقال أو عصير البرتقال جزءاً أساسياً منه.
"آثارٌ مُميتة" للأنظمة الخالية من عصير البرتقال!
في كتاب Fear of Food: A History of Why We Worry about What We Eat (الخوف من الطعام: تاريخ قلقنا مما نأكله)، يقول هارفي ليفنشتاين إن تاريخ انتشار أسطورة فائدة عصير البرتقال يرتبط بـ"مالكوم" خبير التغذية الذي ذاع صيته في أوائل القرن العشرين. روَّج مالكوم بشكل كبير لقدرات الفيتامينات على إطالة الحياة وقدرتها على الشفاء، وحذَّر من الآثار المُميتة لأي نظام غذائي يفتقر إلى الفيتامينات اللازمة. كان هذا الترويج فرصة تسويق مثالية للشركة، فدشنت مؤسسة التبادل الوطني لمزارعي الفاكهة، التابعة لـSunkist، حملة وطنية للترويج لشرب جرعات يومية كافية من عصير البرتقال، من أجل ضمان تناول "الفيتامينات الصحية والأملاح والأحماض النادرة".
ساهم تحويل البرتقال لعصير وتعليبه بشكل عصري في علبة صغيرة سهلة الحمل، في زيادة استهلاك الناس وشربهم له، فلم يعد استهلاك البرتقال أمراً محصوراً على الأكل، بل صار أمراً عملياً كذلك. بإمكانك الآن شراؤه من المحلات والحفاظ عليه طازجاً فترة طويلة، وتخزينه في منزلك لتستهلكه وقتما تحتاج وفي أي مكان.
اعتمدت الشركة أيضاً في دعايتها على تأكيد أن عصير البرتقال الذي تنتجه عصير طبيعي تماماً بلا أية إضافات ولا تغيير فيه أثناء تعليبه. بالطبع، اكتشف الباحثون، فيما بعد، أن هذا غير دقيق؛ فعصير البرتقال وقتها، كما هي أغلب المنتجات الآن، يحتوي على كميات كبيرة جداً من السكر في كل عبوة. ويحتوي أيضاً على كثير من المواد الحافظة التي أثبت العلماء أنها مُضرة جداً لصحة الإنسان.
قلل هذا من شعبية عصير البرتقال المعلب والمعالَج، وحاولت الشركات المنتجة لعصير البرتقال تحسين صورتها وإخبار المستهلكين بأنه من الأفضل استهلاك كمية صغيرة يومياً من عصير البرتقال. كما حذَّرت الحكومة البريطانية الناس من شرب كميات كبيرة من عصير البرتقال يومياً؛ لاحتوائه على كمية كبيرة من السكر تعادل الكمية الموجودة في عبوة البيبسي، وأنه من الأفضل تناول واستهلاك البرتقال الطازج وغير المعلب.
باختصار لا يمكن القول إنَّ شرب عصير البرتقال غير مفيدٍ بالمرَّة، لكن الإفراط في الحديث عن فوائده الصحية خضع لكثير من المبالغة دون أدنى شك.