"أشعر وكأني أفقد كل أوراقي".
تخيل معي ما يمكن أن تشعر به إن خلدت للنوم ذات مرة وأنت في العشرين من عمرك لتستيقط في وقت تجد فيه نفسك في الستين، وتعيش تجربة العجز والكهولة قبل أن تصل إليها بمعدل النمو الطبيعي للبشر؟
هذه هي التجربة التي خضتها حين قررت مشاهدة فيلم "the father".
فيلم "the father" من بطولة أنتوني هوبكنز وأولويڤا كولمان. يحكي الفيلم عن حياة العجز والخرف والكهولة، لكنه لا يحكيها من منظور الراوي العليم، بل بصيغة الـ"أنا"، نحن بالفعل نرى كل الأحداث من عيني الكهل أنتوني.
يبدأ الفيلم بحدث طبيعي ومعتاد للغاية، وهو عودة السيدة -التي يكون عمرها في الأربعين- من الخارج، ودخولها لغرفة أبيها لتجري معه حديثاً حول ضرورة موافقته على تواجد ممرضة معه لأنها مضطرة للسفر إلى فرنسا، لأنها أخيراً وجدت حب حياتها وتود إكمال ما تبقى من عمرها في هدوء.
ومنذ المشهد الأول من الفيلم تلتبس عليك الأسئلة، فتأخذ في التفكير ومحاولات الوصول لإجابات عن الفرق بين التضحية ونفي الذات، وبين الواجب والزائد، وبين الأنانية والرغبة في العيش، تطلق أحكاماً حول كل هذا، وتقرر في المشهد الأول مَن منهما الطرف الأضعف.
لكن هذه ليست حكاية أطفال، حيث هناك دائماً الطرف الخيِّر والأشرار، نحن في قاعة السينما، وفي حضرة سيناريو قوي يحاول تجسيد النفس البشرية بكامل متناقضتها وعبثيتها وتساؤلاتها الغامضة.
لذا تتداخل الأحداث، وتتصاعد الحبكة، وتتشابك المصائر، فلا تعد تعلم مَن على حق ومن يمثل الباطل، ما الخيال وما الحقيقة، ما الكذب وما الواقع؟ تماهٍ تام بين الحقائق والخيالات. وهذه ليست لعبة دعني أخدعك.. دعني أنخدع. أنت بالفعل تحت تأثير خدعة لا سيطرة لك عليها، ولا تعرف من هو مُخادعك.
والسر… قد أخبرتك به مسبقًا.. أنت ترى العالم من عيني عجوز كهل وخِرف!
"البطل هو المكان".
تدور أحداث الفيلم كاملةً في شقة واحدة، وترتبط الأحداث بالحوار وبالجمادات ارتباطا وثيقًا حتى أنك تكاد تشعر بهم وتحس بمشاركتهم الحيَّة في ترتيب مجرى الأحداث. وهناك تجارب أفلام أخرى كان المكان فيها هو البطل كذلك، وهو الذي يسرد أحداث الحكاية.
فيلم "بركات" الفيلم اللبناني القصير الذي عُرض في مهرجان الإسكندرية للأفلام القصيرة. تدور أحداث الفيلم في ميدان عام في لبنان، وبطلا الحكاية هما الجد والحفيد الذي يأخذه لمحل الحلاقة واعدًا إياه أنه بعد قضاء هذه المهمة سيذهبا معًا للبحث عن محل "بركات" الذي يعرفه الجد فحسب بينما لا يعرفه الحفيد.
وبعد دورانهم وسؤالهم عدة مرات عن المحل الذي لا يعرفه أيا من المارة أو الباعة، يجعل الحفيد جده ينتظر قليلا بينما يذهب للسؤال في بناية عن المحل، ونرى الجد يحملق في زجاج أحد محلات الملابس، ثم حين يعود الحفيد، يكون الجد قد اختفي. وهو مجازًا أراد الكاتب أن يوضح به حكاية الماضي التي تبتلع حاضر العجائز، ويظلوا طوال الوقت يحاولون التشبث في خيوط التفاصيل والحكايات التي مضت، ويفكرون في كل الأشياء التي كانت كذلك ثم لم تعد كذلك.
وهناك كذلك فيلم "شو إسمك" اللبناني أيضًا والذي عرض أيضا للمرة الأولى في مهرجان الإسكندرية للأفلام القصيرة. ويحكي الفيلم عن الأم التي تعاني من الزهايمر وابنها الوحيد الذي يقرر محاولة علاجها عن طريق تصوير يومياتها ثم إعادة مشاهدتها معها للمحاولة للحفاظ على ما تبقى من ذاكرتها.
في هذين الفيلمين أيضا كان البطل هو المكان، هو الذي يحكي القصة وليست الشخوص الحيِّة.
وبالمصادفة أيضًا يحدث أن الثلاثة أفلام هي محاولات لمعالجة وتقديم فكرة التقدم بالعمر، ومخاوف العجز والكهولة، وأمراض فقدان الذاكرة، بينما تختلف في الأنواع، فالأول روائي طويل جاء في 140 دقيقة، والثاني والثالث يقدمان نفس الفكرة لكن في ما يقارب من 15 دقيقة فحسب، أليست هذه معجزة؟
للأفلام القصيرة قدسية خاصة، فهي ساحرة في قدرتها على تكثيف الفكرة وعرضها بلا أي خلل في دقائق قليلة، وصانع الأفلام القصيرة عليه أن يكون حساسا جدا تجاه استخدام المكان وحيثيات الحوار. لأن كل تفصيلة مهما كانت صغيرة هي مؤثرة بشكل عميق في الكادر الضيق من الوقت الذي يُسمح به.
لكن هذا لا ينفي أبدا أن للأفلام الروائية الطويلة جاذبية أخرى، وهي تمكنها من إقحامك في النص والصورة ونقل الحالة الشعورية بامتياز.
في النهاية ستظل دائما مخاوف نهاية العمر مجالا شائكا ومحط انتباه كل أصحاب الفن ولن تتوقف أبدا عن محاولات معالجتها وتقديمها بطرق مختلفة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.