يرجع الأرق إلى العديد من العوامل، على رأسها التوتر والإجهاد، لكن هل فكرت مسبقاً في أن نظامك الغذائي أيضاً قد يكون سبباً مباشراً لمعاناتك من الأرق وقلة النوم؟
وفقاً للخبراء، تؤثر اختياراتنا الغذائية على جودة نومنا، كما تؤثر أنماط نومنا كذلك على اختياراتنا الغذائية.. سنشرح لكم الأمر بالتفصيل فيما يلي:
كيف يمكن للنظام الغذائي أن يكون سبباً في قلة النوم؟
خلص الباحثون إلى أن تناول الأطعمة الغنية بالسكريات، والدهون المشبعة، والكربوهيدرات المعالجة قد يؤدي إلى اضطراباتٍ في النوم.
في حين بدا أن اتباع نظام غذائي غني بالخضراوات، والألياف، والدهون غير المشبعة -كالمكسرات وزيت الزيتون والأسماك والأفوكادو- له تأثيرٌ معاكس يساعد في تعزيز النوم الهانئ.
وقد توصّلت العديد من الدراسات الكبيرة على مدار الأعوام إلى أن من يعانون من قلة النوم باستمرار يتبعون في الأغلب أنظمةً غذائية سيئة منخفضة البروتين والفاكهة والخضراوات، ويتناولون كميات أكبر من السكريات المضافة مثل المشروبات السكرية والحلوى والأطعمة فائقة المعالجة.
لكن طبيعة هذه الدراسات لا تُظهر سوى العلاقات والروابط، ولا تناقش الأسباب أو التأثيرات. إذ لا تستطيع مثلاً توضيح ما إن كان النظام الغذائي السيئ هو الذي يؤدي إلى قلة النوم، أم العكس.
لهذا لجأ بعض الباحثين إلى تجارب أكثر تحديداً لفهم العلاقة بين الطعام والنوم على نحوٍ أفضل، حيث حددوا للمشاركين ما سيأكلونه، ثم راقبوا التغييرات التي أصابت نومهم.
بينما بحثت دراسات متعددة في تأثير مجموعة متنوعة من الأطعمة، بدايةً من الحليب وحتى عصائر الفاكهة، لكن هذه الدراسات كانت صغيرةً وليست دقيقةً للغاية.
فضلاً عن أن بعض تلك التجارب مولتها صناعة الأغذية، ولهذا فقد تكون نتائجها منحازة.
إذ وجدت إحدى الدراسات التي مولتها شركة Zespri International، أكبر شركة لتسويق الكيوي في العالم، مثلاً، أن المشاركين الذين أكلوا ثمرتين من الكيوي يومياً قبل النوم بساعة واحدة لمدة 4 أسابيع قد شهدوا تحسناً في بداية الاستغراق في النوم، ومدته، وفاعليته.
وفسّر باحثو تلك الدراسة نتائجهم بـ"وفرة" مضادات الأكسدة في ثمار الكيوي.
بينما خلصت دراساتٌ أخرى مولتها صناعة الكرز إلى أن تناول عصير الكرز الحامض له تأثير معقول في تقليل الأرق، عن طريق زيادة حمض التريبتوفان، الذي يُعد أحد المكونات الأساسية لهرمون الميلاتونين المسؤول عن تنظيم النوم.
وحمض التريبتوفان هو حمضٌ أميني يوجد في الكثير من الأطعمة، مثل منتجات الألبان والديك الرومي، ما يفسر شعورنا بالنعاس بعد تناول وليمة كبيرة تحتوي هذه الأطعمة.
لكن هذا الحمض يحتاج إلى اجتياز الحاجز الدموي الدماغي، قبل أن يكون له أي تأثير منوم، لهذا يتعيّن عليه التنافس مع الأحماض الأمينية الأخرى من بقية الأطعمة قبل أن يمتصه الجسم، لكنه يفشل في ذلك عادةً.
فضلاً عن أنّ الدراسات أظهرت أن تناول الأطعمة الغنية بالبروتينات وحدها، مثل الحليب والديك الرومي، يقلل قدرة التريبتوفان على اجتياز الحاجز الدموي الدماغي.
ويُعَدُّ تناول الأطعمة التي تحتوي على التريبتوفان مع أطعمةٍ أخرى تحتوي على الكربوهيدرات من الطرق الناجحة لتعزيز امتصاص الحمض.
إذ تقول ماري بيير سانت أونج، الأستاذة المساعدة في طب التغذية في مركز إيرفينغ الطبي بجامعة كولومبيا، إن هذا الجمع بين الأطعمة يحفز إفراز الأنسولين. ما يؤدي إلى امتصاص العضلات للأحماض الأمينية، ويسهل بالتالي عبور التريبتوفان إلى الدماغ.
ما الأطعمة التي تحسن نومنا؟
أمضت ماري سنوات في دراسة العلاقة بين النظام الغذائي والنوم، وفقاً لصحيفة New York Times الأمريكية.
وتشير أبحاثها إلى أنه ينبغي التركيز على تحسين النظام الغذائي عامةً، بدلاً من تفضيل بعض الأطعمة بعينها لاحتوائها على خصائص تعزز جودة النوم.
إذ استقدمت مع زملائها 26 مشاركاً بالغاً بصحةٍ جيدة في إحدى التجارب السريرية، وتحكموا في طعامهم لمدة 4 أيام، حيث قدمت لهم وجبات منتظمة أعدها أخصائيو التغذية، وراقبت نومهم ليلاً خلال تلك المدة، وفي اليوم الخامس، سُمِحَ للمشاركين بتناول ما يشتهون.
ووجد باحثو الدراسة أن زيادة تناول الدهون المشبعة وتقليل الأطعمة الغنية بالألياف، كالخضراوات والفاكهة والحبوب الكاملة، أدى إلى تقليص مدة نوم الموجة البطيئة، وهي مرحلة النوم العميق الذي يُجدد النشاط.
وعموماً، توصلت الدراسات السريرية إلى أن الكربوهيدرات لها تأثيرٌ بالغ الأهمية في النوم، إذ يميل الناس إلى الاستغراق في النوم بسرعةٍ أكبر عند تناولهم أطعمةً غنية بالكربوهيدرات، مقارنة بتناول البروتينات والدهون. ويمكن أن تُعزى هذه النتيجة إلى دور الكربوهيدرات في مساعدة التريبتوفان على العبور إلى الدماغ بسهولة.
لكن جودة الكربوهيدرات مهمةٌ كذلك، بل إنها قد تكون سلاحاً ذا حدين في الواقع.
إذ وجدت ماري في بحثها أن الأشخاص الذين يتناولون سكريات وكربوهيدرات بسيطة أكثر -مثل الخبز والمعجنات والمخبوزات والمعكرونة- يستيقظون من نومهم في الليل بشكلٍ أكثر تكراراً.
أي أن الكربوهيدرات قد تساعدك على الخلود إلى النوم أسرع، ولكن من الأفضل تناول الأنواع "المعقدة" منها، لأنها تحتوي على الألياف، حتى تساعدك في الحصول على نوم أكثر عمقاً لتجديد نشاطك.
وقالت: "تعمل الكربوهيدرات المعقدة على ضبط مستويات السكر في الدم، لهذا فإن كون مستويات سكر الدم أكثر استقراراً خلال الليل يُمكن أن يفسر العلاقة بين الكربوهيدارت المعقدة وبين جودة النوم".
في حين يُعتبر النظام الغذائي المتوسطي من الأنظمة الغذائية المثالية لتحسين جودة النوم، لأنه يركز على تناول الخضراوات، والفاكهة، والمكسرات، والبذور، والبقوليات، والحبوب الكاملة، والأطعمة البحرية، والدواجن، والزبادي، والأعشاب، والتوابل، وزيت الزيتون.
حيث وجدت الدراسات الرصدية الكبيرة أن من يتبعون هذا النوع من الأنظمة الغذائية يكونون أقل عرضة للإصابة بالأرق أو النوم القصير، رغم الحاجة إلى مزيد من الأبحاث لتأكيد هذا الارتباط.
النوم والنظام الغذائي.. علاقة تبادلية
لكن العلاقة بين النظام الغذائي السيئ وقلة النوم هي علاقةٌ تبادلية، إذ وجد العلماء أن قلة ساعات النوم تزيد من تعرض المرء لتغيرات فسيولوجية تدفع بأصحابها إلى اللجوء للأطعمة غير الصحية.
كما كشفت التجارب السريرية أن المشاركين -البالغين الأصحاء- الذين لم يُسمح لهم بالنوم أكثر من 4 أو 5 ساعات في الليلة تناولوا أطعمة أعلى في السعرات الحرارية وبكميات أكبر على مدار اليوم، وشعروا بجوعٍ أكبر، وزادت شهيتهم للحلويات.
وقد أدى الحرمان من النوم إلى زيادة إفراز هرمون الجريلين (هرمون الجوع) بين المشاركين الرجال، في حين أدى لدى النساء إلى انخفاض مستويات هرمون الببتيد الشبيه بالغلوكاغون، الذي يُعطي إشارة الشبع.
وقالت ماري: "يعني هذا أن قلة النوم تزيد الشهية عند الرجال، وتُؤخر إشارة التوقف عن الأكل عند النساء".
كما تحدث تغييراتٌ في الدماغ أيضاً، حيث وجدت ماري أن تقييد ساعات النوم لأربع أو خمس ساعات فقط، لدى الرجال والنساء على السواء، قد زاد نشاط مراكز المكافأة في الدماغ عند تناول البيتزا والكعك والحلوى، مقارنةً بتناول الأطعمة الصحية مثل الجزر والزبادي والشوفان والفاكهة، في حين اختفت استجابة تفضيل الأطعمة السريعة بعد خمس ليالٍ من النوم الطبيعي.
ونستنتج مما سبق أن الطعام والنوم مترابطان، وأن تحسين جودة أحدهما سيؤدي إلى تحسين الآخر، ما يخلق دورة إيجابية بينهما.