مبدأ النسبية في الفيزياء، كما وضعه جاليليو، ينص على أن قوانين الطبيعة تظهر لجميع المراقبين بنفس القوانين، إذا كان كل منهم في نظام يتحرك بالنسبة لنظام آخر بسرعة منتظمة وفي خط مستقيم. أي إنه لا توجد حالة حركة مطلقة تميّز مراقباً ما عن غيره، وإنما يمكن دراسة حركة الأجسام بالنسبة لبعضها البعض، ولا يوجد "مختبر" مرجعي يميز عملية القياس.
يبدو كلاماً معقداَ أليس كذلك؟ ربما كان ذلك تماماً هو سبب رسوبي في مادة الديناميكا في أولى سنوات دراستي بكلية الهندسة، ولكن على أي حال بشكل مبسط من منظور "التكرار يعلم الشطار"، في كل مرّة تقوم بقياس سرعة كائن أو نشاطه أو كيفيّة تعامله مع الوقت دائماً ما يكون السبب مُتعلّقاً بشيء آخر، أي إن الأشياء لا تقاس على حدة وإنما نسبة إلى أشياء أخرى.
تخيل معي الآن وجود مراقبَين، الأول يجلس داخل منزل على الشاطئ، والآخر يجلس في مركب وسط البحر، فكِلا المراقبَين لن يتمكن من تحديد ما إن كان المركب يتحرك أم لا، ولتحديد ذلك يجب على كل من المراقبَين أن ينظرا إلى بعضهما البعض ليلاحظا حقيقة تحرك المركب، بل يجب أيضاً على المركب أن يغير من سرعته ويزيدها حتى يعرف المراقب الذي في المركب أن المركب يتحرك.
ومن المنطلق ذاته يمكننا أن نعكس ذلك تماماً علينا نحن البشر، في تصرفاتنا ومعتقداتنا ونجاحاتنا وسقطاتنا. مخطئٌ أنت إذا ظننت في يوم من الأيام أن تلك الأفكار التي زرعت بداخلك طفلاً لا تؤثر عليك وأنت رجل، مخطئ إذا ظننت أنك تجردت منها تمام التجرد، فمن أين أتى سطرك الأول وأنت صفحة ناصعة البياض؟ وكيف يُمحى سطرك الأول مهما تعددت المحاولات؟
بما أننا نتحدث داخل إطار الفيزياء، فهل يمكن أن تفنى الطاقة أو تستحدث من العدم؟ مستحيل! ولكن على جانب آخر، جميعنا لا نحب ذلك الشعور بأن قصصنا كانت عادية أو مكررة، جميعنا نتحدث يقيناً عن اختلافها وصعوبة أحداثها. ليس بسبب حقيقة ذلك، لكن بسبب صدق ما بذلناه بقلوبنا في كل سطر.
إذاً كيف سنشبع غريزة حب الاختلاف إذا لم نتمكن من التجرد؟
نعم.. النسبية هي المبدأ والسبيل الوحيد!
الآن كبرت أيها الصغير وصار لك منظور في الحياة يبدو مجرداً متفرداً رغم أنه ليس كذلك على الإطلاق، أنت فقط تبحث عن الاختلاف نسبةً إلى ما رأيته معتاداً، مقياسك هو أين أنت مما كان عليه من سبقوك؟ مثلك مثل كرة السرعة، بعد خبطة المضرب لن تطير في الفضاء، ولن تعبر حدود السماء ولن تسبح في الأعماق تحت الماء، معلق أنت في نقطة لا يمكنك الخروج عنها، أقصى ما يمكنك فعله هو أن تذهب إلى الناحية الأخرى نسبة إلى اتجاه الضربة، لا تملك سوى طريقين رغم أن الواقع خارج دائرتك الضيقة به طريق ثالث ورابع وعاشر إلى ما لا نهاية.
الطريق الأول هو طريق ما وجدنا عليه آباءنا، طريق مريح لمن لا يريد عتاب الضمائر وإرهاق العقل كثيراً، هل جننت أنت؟ هل تظن أن أبي يمكن أن يكون مخطئاً؟ مرجعية تعفيك من تحمل المسؤولية بعض الشيء، ولكن بالطبع لن تصبح تكراراً! ستطور في نهج الآباء حتى تصبح أنجبهم على الإطلاق.
ماذا إذا لم يعجبك نهج الآباء وقررت أن تثور؟ هل تظن أنك ستخرج خارج الدائرة؟
صدقاً ستهرب، أتفق معك، ولكن ترى إلى أين؟ فقط إلى الناحية الأخرى، طبعتك الأولى المسطورة داخل عقلك هي مركز الرعب الذي ستجري عكسه ليس إلا.
إذاً أخبرني من أين يأتي يقينك أن أفكارك هي الصواب المطلق وأنت لا تملك سوى نافذة واحدة يطل منها عقلك على الحياة؟ أفكارك صواب نسبة إلى مفهوم الخطأ داخل عقلك فقط، العائد في أساسه إلى صفحتك الأولى، ولكن هل تعلم ماذا كتب في الصفحات الأولى لدى غيرك؟ هل تعلم على أي أساس مبني مفهوم الخطأ داخل عقولهم؟
كم تمنيت لو أن أرواحنا تملك جسدين، لكل جسد منهما فم وأذنان وعينان. عينان تريان الشمس في أقاصي المشرق، والأخريان تريان انعكاس ضوئها على القمر في ضواحي المغرب. وأذنان تسمعان ما يُحكى هنا وما يُقال هناك، وفم يروي لكل منهما كل ما سمعت الآذان وأُبصرت الأعين، وروح تستوعب كل ذلك في آن واحد.
فلو أقسمت عينان بكذب الأخريين، استوعبت الروح أن كلاً منهما يخبر الصدق من نافذة عينه. إذاً بعد كل ذلك هل عرفت من أنت نسبة إلي؟ أنت طرف التوازن الذي سأجده دائماً يزن كفتي!
إذا كنت بعيداً عن الله سأجدك شيخاً عفيفاً يهديني، وإذا كنت مُتشدداً سأجدك عاهراً يجذبني حتى أصل إلى منتصف الطريق، وإذا كنت متهوراً سأجدك صوت عقلي المُفكر، وإذا كنت عاقلاً سأجدك تدفعني إلى الجنون، وإذا كنت كثير الكلام سوف تعلمني جمال السُكون، وإذا كنت دائم الصمت سوف تجعلني أشتاق إليه.
هذا ما يُمكنني إخباره لك.. أما عمن نحن حقاً، فهذا يصعب عليَّ شرحه ويتعذر عليك فهمه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.