بعد أن كادت مصر تقع في موقف محرج أمام الأسواق الدولية، يبدو أن رئيسها عبدالفتاح السيسي نجح في إقناع صندوق النقد الدولي بتقديم الشريحة الخامسة من القرض المخصص للقاهرة، بعد أن تعهد بأنه سيتم تحرير أسعار الوقود في مصر وإلغاء الدعم عليها في تواريخ محددة.
وذكرت مصادر حكومية مصرية مطلعة لـ "عربي بوست"، أنه بعد رفع الصندوق مصر من جدول أعماله، وهو أمر له دلالة سلبية على وضع مصر الاقتصادي، فإن السيسي تدخل شخصياً بهدف إقناع الصندوق بعدم الامتناع عن تقديم الشريحة الخامسة من القرض البالغ قيمتها ملياري دولار.
وحسب المصادر فإن السيسي كان منذ البداية وراء هذا الموقف السلبي من قبل الصندوق، عندما قرَّر إرجاء رفع أسعار الوقود في الوقت الحالي، الأمر الذي يبدو أنه أثار استياء مسؤولي الصندوق.
ولكن السيسي قدَّم تعهّدات بأنه سيتم تحرير أسعار الوقود في مصر في تواريخ محددة، بعضها يبدأ قريباً، الأمر الذي يبدو أنه أرضى الصندوق بعد جولات ماراثونية من المفاوضات.
أزمة مصر مع الصندوق تتزامن مع انتفاضة السترات الصفراء
وطيلة الأسابيع الماضية، وتحديداً منذ اندلاع انتفاضة السترات الصفراء في باريس، وهناك شدّ وجذب بين القاهرة وصندوق النقد الدولي، حول القسط الخامس من القرض المستحق في ديسمبر/كانون الأول الحالي، ومسألة تحرير أسعار الوقود في مصر.
وكان الطرفان قد أبرما اتفاقاً في 2016، بمقتضاه تحصل مصر على قرض من الصندوق الدولي، تبلغ قيمته 12 مليار دولار، على 6 أقساط، شريطة أن تلتزم القاهرة ببنود برنامج الإصلاح الاقتصادي الموضوع من قبل الصندوق.
وكان آخر شريحة تلقتها مصر من الصندوق هي الشريحة الرابعة في الصيف الماضي.
وقد التزمت مصر بالفعل بالبنود كلها حتى الآن، فقلَّصت الدعم الحكومي على كثير من المنتجات، على رأسها المحروقات والكهرباء.
كما حرَّرت سعر صرف الدولار، ونفَّذت أغلب طلبات الصندوق الخاصة بتشجيع الاستثمار الأجنبي.
وهو ما دفع مسؤولي الصندوق للثناء على الحكومة المصرية، في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والإشادة في تقريرهم السنوي بإجراءات الإصلاح الاقتصادي التي تنفذها مصر، مما جعلها تتواكب مع التحولات المالية العالمية، على حد تعبير التقرير.
لكن فجأة قرَّر المجلس التنفيذي للصندوق حذف مصر من جدول الاجتماعات، الذي كان مقرراً له أن يكون يوم 19 ديسمبر/كانون الأول 2018، من أجل التصويت على نتائج المراجعة الرابعة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، ومنحها القسط الخامس من القرض المتفق عليه في ديسمبر/كانون الأول، والبالغ قيمته 2 مليار دولار أميركي.
وهو القرار الذي لم يُفسر من قبل الصندوق ولم تعلن أسبابه.
ولكن ما فهم أن الصندوق لم يعد راضياً عن وتيرة تحرير أسعار السلع المدعمة، لاسيما تحفظ الحكومة على تحرير أسعار الوقود في مصر.
لماذا تسبب السيسي في تأخير الشريحة الخامسة من القرض؟
الرئيس عبدالفتاح السيسي شخصياً كان وراء تأخير الدفعة الخامسة من القرض، حسبما قالت مصادر مطلعة بالحكومة المصرية لـ "عربي بوست".
فقد اتخذ السيسي بنفسه قرار تأجيل رفع الدعم عن المنتجات البترولية بشكل جزئي، الذي كان من المقرر أن يتخذ في مطلع يناير/كانون الثاني، وبشكل كلي في يونيو/حزيران القادم، حسب المصادر.
ويعد تدخل السيسي لتأجيل قرار رفع الدعم أمراً لافتاً للنظر.
إذ أنه من الواضح بناء على تصريحات السيسي نفسه، أنه كان دوماً متحمساً لفكرة تحرير أسعار الوقود في مصر، وإزالة الدعم بصفة عامة، وأن يدفع المواطن ثمن السلعة أو الخدمة التي يتلقّاها.
وقد يكون السبب في هذا التغيير المؤقت هو أن الرئيس تلقَّى تقرير "تقدير موقف أمني" من الأجهزة السيادية، ينصح بعدم تحريك الأسعار الآن، أو رفع الدعم عن أي سلعة حيوية (كالوقود)، في ظل الاحتقان الموجود في الشارع، حسب المصدر.
والخوف من السترات الصفراء كان له تأثير على قرار السيسي كما يبدو
وقد حذَّرت هذه التقارير من تكرار تجربة السترات الصفراء في مصر، خاصة أن زيادة أسعار الوقود في فرنسا كانت هي السبب المباشر في قيام هذه الحركة.
ويقول المصدر المطلع -الذي فضل عدم ذكر اسمه- لـ "عربي بوست"، إن السيسي بنفسه هو الذي أخطر الصندوق بذلك، وهو ما قوبل برفض في البداية.
لكن أعد لهم الرئيس ملفاً كاملاً يتضمن ما تم إنجازه من طلبات الصندوق، سواء من حيث تقليل الدعم الحكومي ومكافحة الفساد (الملف احتوى على أبرز القضايا التي يحقق فيها جهاز الرقابة الإدارية).
كما أكد السيسي للصندوق أنه لن يتراجع عن تحرير أسعار الوقود في مصر ورفع الدعم عنه، بالعكس هو ماض قدماً فيه، هو فقط يطلب التأجيل بضعة أشهر.
وذكَّر السيسي مسؤولي الصندوق أنه بالفعل تم رفع أسعار الوقود 3 مرات منذ 2016، ضمن برنامج الحكومة لتقليل فاتورة دعم الطاقة، لكن الموقف الآن شديد الحساسية، والشارع المصري لن يحتمل المزيد.
ولكن ما حدث في السودان أقنع الصندوق بوجهة نظر السيسي
وقد ساهمت الانتفاضة الشعبية الحاصلة في السودان الآن في تدعيم موقف السيسي أكثر أمام الصندوق، بضرورة تأجيل قرار تحرير أسعار الوقود في مصر.
وكان السيسي قد تلقَّى اتصالاً الجمعة 21 ديسمبر/كانون الأول، من من كريستين لاغارد، المدير العام لصندوق النقد الدولي.
وذكرت الرئاسة المصرية أن الجانبين استعرضا خلال الاتصال أوجه التعاون بين مصر وصندوق النقد الدولي، وسبل تعزيزه في عدد من المجالات، فضلاً عن تطورات تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري.
وأشادت المسؤولة الدولية خلال الاتصال بعملية تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر، فيما أعرب السيسي عن حرصه على استمرار التعاون مع الصندوق، حسبما قالت الرئاسة المصرية.
وبالفعل وافق على الدفعة الخامسة.. وبنزين 95 سيكون أول ضحايا تحرير أسعار الوقود في مصر
وبالفعل تمَّت الموافقة للسيسي على تلقي الدفعة الخامسة، في مطلع يناير/كانون الثاني 2018، حسبما قالت المصادر الحكومية المصرية لـ "عربي بوست".
وجاءت هذه الموافقة من قبل الصندوق، بعد تعهّد السيسي بأنه سيتم تحرير أسعار الوقود في مصر في توقيتات محددة.
وسيتم وفقاً لتعهّد السيسي، البدء بتحرير سعر بنزين 95 (أعلى شريحة بنزين في مصر)، وربط سعره محلياً بالأسعار العالمية، في مارس/آذار المقبل 2019.
ويتضمن الاتفاق أن يتم الشيء ذاته مع باقي درجات البنزين الأخرى، في سبتمبر/أيلول المقبل 2019، بعد رفع الدعم بشكل كلي.
ورفعت مصر أسعار الوقود ثلاث مرات منذ قرارها تحرير سعر الصرف في عام 2016.
وحالياً (ديسمبر/كانون الأول 2018)، يبلغ سعر بنزين 80 أوكتين، الذي يعد الأكثر استخداماً للسيارات القديمة وسيارات التاكسي، وكذلك السولار (الديزل) 5.5 جنيه للتر الواحد (أي حوالي 30 سنتاً).
ويبلغ سعر بنزين 92، الذي تستخدمه الطبقة المتوسطة والعليا، 6.75 جنيه (37 سنتاً)، أما سعر بنزين 95 الأقل استخداماً فيبلغ 7.75 جنيه (43 سنتاً).
ولكن كيف سيتم تحديد سعر الوقود بعد تحريره؟
الهدف الأساسي هو تحرير سعر الوقود في مصر، أي أن يباع وفقاً للسعر العالمي، أو سعر التكلفة، بحيث لا تتحمل الدولة أي دعم مالي له.
كما أن ذلك يعني أنه في حال ارتفاع أسعار النفط سيرتفع الوقود، والعكس أنه في حال انخفاض أسعار برميل النفط يفترض أن يتراجع سعر الوقود.
ولكن كيف سيتم تطبيق ذلك في مصر.
مسؤول حكومي شرح لـ "عربي بوست" تفاصيل تعهد السيسي للصندوق، الذي تضمَّن الاتفاق على آلية تسعير الوقود بعد التحرير.
وقال إن هناك آليتين لتحرير سعر بيع الوقود.
إما تحرير كامل مثل الولايات المتحدة، على سبيل المثال، حيث يتغير السعر يومياً وفقاً للسعر العالمي.
فيوجد في محطات الوقود لوحات أشبه بلوحات البنوك، يدخل قائد السيارة المحطة فيقرأ السعر الموجود على الشاشة، ويكون ذلك هو سعر اليوم الذي يحاسب على أساسه.
ولكن هذه الآلية لن تطبقها مصر وفقاً لتعهد الرئيس؛ نظراً لخطورتها على الشارع المصري.
ولكن ستطبق القاهرة آلية تحرير جزئي لأسعار الوقود، وفيه تحدد الحكومة سعراً تقريبياً بناء على المؤشرات العالمية، في مطلع العام أو كل 6 أشهر.
ويكون هذا السعر ملزماً لجميع المحطات طيلة المدة المقررة، على أن يتغير بعد انتهائها للسعر الجديد، الذي قد يرتفع أو يقل حسب السوق العالمي.
ويختتم المسؤول الحكومي حديثه مع "عربي بوست" قائلاً: هذه الطريقة مناسبة أكثر للوضع المصري، نظراً للكساد العام الذي يمر به الشارع المصري، والأزمات المتتالية التي تواجه المواطن.
هل سيؤدي تحرير أسعار الوقود إلى موجة غلاء جديدة؟
نظرياً لن تكون هناك أزمة "كبيرة" جراء ارتفاع أسعار الوقود، خاصة البنزين، حسبما يقول سعيد المندوه، الخبير الاقتصادي، في تعليقه على قرارات تحرير أسعار الوقود المحتملة.
ويفسر ذلك قائلاً: "السبب في أن الأمر لن يسبب أزمة كبيرة أن سعر البرميل في الموازنة العامة المصرية هو 64.5$، في حين أن السعر العالمي انخفض إلى 51$ تقريباً.
وأضاف "هذا الفرق سيعوض جانباً كبيراً من سعر تحرير الوقود، ولن يجعل الوقود يرتفع بشكل كبير في حال تحريره، خاصة البنزين نظراً لأن سعره العالمي قد إنخفض وبالتالي قل الفارق بين السعر العالمي وسعر بيعه في مصر".
ولكنه استدرك قائلاً: "إن الأزمة الحقيقية ستكون في سعر السولار، وهو المنتج المدعوم بنسبة كبيرة من الحكومة، وينتظر أن يؤثر ارتفاعه على تكلفة نقل المنتجات سواء الغذائية أو غيرها.
وبشكل عام سيقود ذلك إلى زيادة تتراوح ما بين 15% إلى 20%، وهي زيادة بشكل عام ليست كارثية، حسب رأي المندوه.
غير أنه يقول: "ولكن نظراً لأن "الناس على آخرها" على حد تعبيره، فقد تقود تلك الزيادة إلى انفجار شعبي، وهو ما تخشاه الحكومة، وتحرص على تلافيه الآن.
وفي هذا السياق، علم "عربي بوست" أن الرئيس عبدالفتاح السيسي عقد اجتماعاً مغلقاً مع مجلس الأمن القومي، بحث معهم فيه الموقف الأمني في الشارع.
وتم التأكيد خلال الاجتماع، على اليقظة في مجابهة أي محاولة لاستثارة الشارع، واستغلال الغضب الذي قد ينتج عن هذا القرار في إثارة مظاهرات أو احتجاجات شعبية.