بالنسبة للإدارة الأميركية، يُعد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان شريك دونالد ترمب في منطقة الشرق الأوسط. فهو يقود تحالفاً استراتيجياً ضد إيران، ويحافظ على علاقاتٍ هادئة مع إسرائيل، ويشتري الأسلحة الأميركية بمليارات الدولارات.
بالنسبة لمحمد بن سلمان، يعد ترمب حليفاً ملائماً بالمثل. فالرئيس الأميركي لا يزعج نفسه كثيراً بشأن وضع الديمقراطية وحقوق الإنسان في السعودية أو مصير الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
مجلة Foreign Policy الأميركية نقلت عن عدة خبراء سعوديين، أنه خلال العام ونصف العام الماضي منذ أن أصبح الحاكم الفعلي للسعودية، بات محمد بن سلمان (33 عاماً) يعتقد أن لديه تفويضاً مطلقاً من إدارة ترمب للتصرف بوحشيةٍ ودمويةٍ مثلما يحلو له.
سواء بشنِّ حربٍ شنيعة في اليمن أو القتل المزعوم للمعارضين السياسيين مثل جمال خاشقجي.
"اختفاء خاشقجي جزءٌ من حملة سعودية وقحةٍ للغاية"
ووفقاً لروايات عديدة، كان محمد بن سلمان وحشياً ودموياً بالفعل.
اختفى خاشقجي، الصحافي السعودي البارز الذي كان ينتقد النزعات الاستبدادية المتنامية لمحمد بن سلمان في مقالاته المنشورة في صحيفة The Washington Post الأميركية، بعد دخوله القنصلية السعودية في إسطنبول منذ أسبوع.
ومنذ ذلك الحين، تتزايد الأدلة التي تؤيد مزاعم اغتياله على يد عملاء من المخابرات السعودية، قد يكونون تصرفوا بناءً على أوامر ولي العهد السعودي، وفق الصحيفة.
وقال بروس ريدل، الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية الذي عمل مستشاراً لأربعة رؤساء أميركيين بشأن ملف السعودية والشرق الأوسط، إن "اختفاء خاشقجي جزءٌ من حملة سعودية وقحةٍ للغاية وغير مسبوقة بالفعل لتكميم أفواه المعارضين الذين قد يشككون في شرعية حكم محمد بن سلمان".
أميركا تتحرك بحذر وتركيا لم تطلب مساعدتها بعد في التحقيق
على الرغم من هذا، تواصل إدارة ترمب الرد على الأسئلة المثارة بشأن مصير خاشقجي بحذرٍ شديد لتحاكي، إلى حدٍّ كبير، التوجه السعودي الرسمي بأنها لا تعرف ماذا حدث له.
ورفض مسؤولون من مجلس الأمن القومي الأميركي ووكالة المخابرات المركزية التعليق على هذا المقال.
وأشارت هيذر نويرت، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، في بيانها الصحفي قبل يومين، إلى أن أي طلبات للحصول على معلومات من الحكومة التركية ستُقدَّم "عبر مكتب التحقيقات الفيدرالي".
لكن دون الحصول على طلبٍ محددٍ للمساعدة من الدولة المُضيفة، لا يحقق مكتب التحقيقات الفيدرالي في جرائم خارج البلاد، ما لم تكن أعمالاً إرهابية أو اعتداءً ضد مواطنين أميركيين.
وبناءً على بيانات المسؤولين الأميركيين، لا يبدو أن تركيا قدمت طلباً مماثلاً للحكومة الأميركية.
ترمب يبالقيادة السعودية
قالت سارة هاكابي ساندرز، المتحدثة باسم البيت الأبيض، للصحفيين إن مستشار الأمن القومي جون بولتون وصهر ترمب جاريد كوشنر، اتصلا بولي العهد السعودي لمعرفة ما حدث لخاشقجي.
وعلاوة على ذلك، أجرى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو اتصالاً مع محمد بن سلمان.
أما عن ترمب نفسه، فقد قال للصحافيين، يوم الأربعاء الماضي 10 أكتوبر/تشرين الأول، إنه أراد دعوة خطيبة خاشقجي التركية للقدوم إلى البيت الأبيض.
وكان الصحافي السعودي قد ذهب إلى قنصلية بلاده للحصول فقط على الأوراق اللازمة لإتمام زواجه.
وقال ترمب إنه "سيعرف لب الحقيقة" بشأن اختفاء خاشقجي، وأضاف: "لا يمكن أن نسمح بحدوث هذا الأمر مع الصحافيين أو أي شخصٍ".
لكن ترمب قال أيضاً إنه ليس لديه أدنى فكرة عما حدث للصحافي السعودي وقال عن محمد بن سلمان: "كنت أجده دائماً رجلاً رائعاً".
لكن صوته عالٍ عندما يتعلق الأمر بالنفط والسلاح
في الواقع، كان انتقاد ترمب الوحيد للسعوديين يتعلق بأسعار النفط.
إذ قال الرئيس الأميركي للجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر الماضي، سبتمبر/أيلول، إن منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) "تنهب بقية العالم كعادتها.. نحن ندافع عن العديد من هذه الدول دون مقابل ثم يستغلوننا عبر منحنا النفط بأسعارٍ مرتفعة. هذا ليس جيداً".
أثناء خطابٍ له أمام حشدٍ لحملته في ولاية مسيسيبي، انتقد ترمب الملك سلمان، والد محمد بن سلمان، بشكلٍ شخصي: "أحب الملك.. لكنني قلت له: نحن نحميك. قد لا تتمكن من البقاء في السُلطة لأسبوعين دوننا. يجب أن تدفع المال مقابل أسلحة جيشك، يجب أن تدفع".
أما محمد بن سلمان فصدره رحب لهذه الانتقادات على ما يبدو
سارع محمد بن سلمان للتصالح مع شريكه الأميركي، إذ قال لوكالة Bloomberg الأميركية في اليوم التالي لهذه التصريحات إن تعليقات ترمب ليست مشكلة كبيرة.
وأضاف ولي العهد السعودي: "إذا نظرت إلى الصورة الإجمالية، ستجد أن 99% من الأشياء جيدة، وملفاً واحداً فقط سيئ".
وختم: "أحب العمل مع ترمب. أحب فعلاً العمل معه وقد حققنا إنجازاتٍ كثيرة في الشرق الأوسط".
هجوم ترمب على الصحافة لا يبشّر بإصراره على كشف مصير خاشقجي
يبدو أن أجندة ترمب الأكبر في الشرق الأوسط، خاصةً تحالفه مع السعودية وإسرائيل لاحتواء نفوذ إيران، هي السبب الرئيسي وراء صمته تجاه سجل محمد بن سلمان الخاص بانتهاكات حقوق الإنسان.
وفي قضية خاشقجي، فتح الرئيس الأميركي الباب أمام الاعتداءات الجسدية على الصحافيين عبر وصفه للإعلام مراراً بأنه "عدو الشعب".
وقال ريدل: "أنا متأكد أن وفاة الصحافي السعودي ليست أولويةً لدى الرئيس الذي يتهم الإعلام بنشر "الأخبار الكاذبة". لا أعتقد أن إدارة ترمب ستفعل أي شيء بشأن خاشقجي".
محمد بن سلمان شريك دونالد ترمب وعده بالكثير من الصفقات
فوق كل هذا، وعد محمد بن سلمان بمنح ترمب ما يريده بشدة -ألا وهو الصفقات، بل والكثير من الصفقات.
بحلول نهاية العام الماضي، 2017، تفاوض كوشنر مع محمد بن سلمان بشأن صفقة أسلحة بقيمة 110 مليارات دولار.
ولا يتضح مدى حقيقة تنفيذ هذه الاتفاقات التي يُروَّج لها بكثافةٍ في الإعلام (إذ أن الكثير من العقود لم تُوقع).
لكن ولي العهد السعودي تعهد بمزيدٍ من هذه الصفقات في المستقبل.
قمع الجبهات الدينية والصداقات مع الغرب وإسرائيل أسكت الكثيرين
وقال محمد بن سلمان لوكالة Bloomberg: "بعد أن أصبح ترمب رئيساً، غيَّرنا استراتيجيتنا الخاصة بالتسليح مجدداً للسنوات العشر المقبلة لنوجه أكثر من 60% من إنفاقنا العسكري إلى الولايات المتحدة".
وقال ريدل وخبراء سعوديون آخرون إنه بينما تمكن محمد بن سلمان بذكاءٍ من تكوين صداقات مع دولٍ هامة في الغرب، أصبح أكثر تهوراً ووحشية في حملاته القمعية.
وحظي ولي العهد السعودي بإعجاب الأشخاص الأقوياء في الغرب عبر حديثه عن قبوله لإسرائيل وتقليص دعمه للوهابية، التي أسهمت في انتشار التطرُّف بفضل أموال النفط السعودي.
لكن "شرعية محمد بن سلمان معرضةٌ للانتقاد وحكمه متهور"
وكان حضور محمد بن سلمان آخذاً إلى درجةٍ خدعت توماس فريدمان، الكاتب في صحيفة New York Times الأميركية، وجعلته يصفه بأمل الربيع العربي المتجدد.
وقالت سارة ليا واتسون، التي تشرف على شؤون الشرق الأوسط لدى منظمة هيومان رايتس ووتش: "ربما تكون عبقريته هي السبب وراء إعجاب الآخرين به. إنه متنمر جبان وبلطجي.. لكن من وجهة نظر ميكافيلية، لم يُركِّز أي أمير سعودي هذا القدر من السلطة في قبضته".
يعد هذا خروجاً عن النظام المعتاد القائم على إجماع الرأي داخل العائلة المالكة السعودية. قال ريدل: "إن السعودية ملكيةٌ مطلقة لكنها كانت تتصرف وفقاً للأعراف الدولية في أغلب الوقت، ولم تعتد اختطاف وقتل معارضيها بهذه الطريقة الفاضحة".
ولم تلق القبض على مئات المواطنين وابتزازهم في فندق ريتز كارلتون (مثلما فعل محمد بن سلمان في الخريف الماضي).
ولم تضع ولي العهد السابق قيد الإقامة الجبرية في منزله. ويعكس هذا خطورة طبيعة منصب محمد بن سلمان. فشرعيته معرضةٌ للانتقاد وحكمه متهور".
حتى حرب اليمن صنيعة قراره المنفرد
ويُعتَقَد أيضاً أن حرب السعودية ضد المتمردين الحوثيين الشيعة في اليمن المدعومين من إيران صنيعة محمد بن سلمان وحده، الذي كان وزير الدفاع الجديد عندما شُنَّت الحرب في 2015.
كان سعود الفيصل، الذي عمل وزيراً للخارجية السعودية لوقتٍ طويل والذي عُرف عنه معارضته لغزو اليمن، مريضاً وتوفي قبل بدء الحرب مباشرةً.
منذ ذلك الحين، يقول ريدل: "وأعضاء العائلة المالكة السعودية يبذلون قصارى جهدهم كي يبينوا إن هذا لم يكن قرار العائلة".
فاغتيال خاشقجي ليس بالضرورة أمراً مفاجئاً في ظل حكم كهذا
من هذا المنظور، تعتبر الصحيفة أن قتل خاشقجي المزعوم ليس أمراً مفاجئاً بالضرورة بالنسبة لحاكم يعتقد، على ما يبدو، أنه محصنٌ ضد أي انتقام.
رغم هذا، يقول بعض المنتقدين إن هذا التصرف قد يكون متجاوزاً للحدود. أشار ريدل إلى أن ضباط الاستخبارات يعتقدون أن العملية الاستخباراتية المسؤولة عن اختفاء خاشقجي نُفِّذَت بشكلٍ مهمل ورديء، وهو ما يُفسر سرعة كشف السُلطات التركية لها.
فماذا سيفعل والده وبقية أفراد العائلة؟
قد تؤدي جهود محمد بن سلمان المترنحة لتحديث الاقتصاد السعودي، والتي يستغلها لتبرير حملاته القمعية المحلية، بالإضافة إلى الإحراج الناجم عن حادثة اختفاء خاشقجي، إلى تركه معرضاً لإعادة النظر في مدى صلاحيته لتولي العرش من جانب والده والأعضاء الآخرين البارزين في العائلة المالكة.
تنحيته عن المنصب أو حتى محاولة اغتياله باتت احتمالاً مرجحاً
وفي الولايات المتحدة، إذا تمكن الديمقراطيون من السيطرة على مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي المقرر إجراؤها في 6 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، قد تتعرض بعض صفقات الأسلحة السعودية-الأميركية للتجميد.
وسيمثل هذا نكسةً أخرى لمحمد بن سلمان.
قال ريدل: "يستمر في التمتع بحماية والده، وهو أمرٌ مصيري. لكن لن أتفاجأ إذا نُحِّيَ عن تسلسل تولي العرش أو كانت هناك محاولة لاغتياله".