قبل 7 سنوات من الآن، حين ثار العرب في عدد من الدول ضد حكامهم المستبدين، انخرط القادة الأوروبيون في اعتراف جماعي بالذنب، ورأوا أن عقوداً من العمل مع الديكتاتوريين لم تخلق عالماً عربياً مستقراً ومزدهراً.
وآنذاك تعهَّد القادة الأوروبيون أنَّهم من الآن فصاعداً ستكون الديمقراطية وحقوق الإنسان هما حجر الزاوية في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه الشرق الأوسط. لكنَّ هذا النُبل لم يستمر طويلاً. إذ عادت الحكومات الأوروبية من جديد لاحتضان المستبدين، يُحرِّكها في ذلك خوفها من المهاجرين، بحسب ما رأته مجلة Economist البريطانية في تقرير نشرته أمس الخميس 16 أغسطس/آب 2018.
"تعذيب حتى الموت"
وقالت المجلة إن الدمار يسود الآن في معظم أنحاء سوريا، لكنَّ آلة القمع المتبعة من قبل نظام بشار الأسد لا تزال بخير، وأشارت إلى أنه في وقتٍ سابق من هذا العام 2018، نشر موقعٌ داعم للمعارضة قائمة بأسماء السوريين المطلوبين من جانب النظام، وكانت قاعدة البيانات هذه صاعِقة بسبب حجمها، حيث تضمنت 1.5 مليون شخص أو 7% من السكان ما قبل الحرب- وغير مكتملة.
ويُقال إنَّ جميل الحسن مدير إدارة المخابرات الجوية، أخبر مسؤولين بارزين في يوليو/تموز الماضي أنَّه يريد إلقاء القبض على ضعف ذاك الرقم، وفي 9 أغسطس/آب الجاري، أعلن مسؤولٌ آخر بالنظام أنَّ 100 ألف سوري لقوا مصرعهم "لأسباب مجهولة" منذ عام 2017. في حين تعرَّض الكثيرون للتعذيب حتى الموت في زنازين الأسد، ومع ذلك يناقش ساسة أوروبيون حول إعادة اللاجئين إلى هذا السجن الدموي.
ويرفض الاتحاد الأوروبي مساعدة نظام بشار الأسد في إعادة إعمار البلد الذي أحرقته المعارك. لكنَّ بعض الدول الأعضاء، التواقة لرؤية اللاجئين يعودون لديارهم، ترغب في القيام بالأمر مهما يكن.
وعرض الدبلوماسيون الروس المساعدة في إعادة المهاجرين مقابل مواد البناء والأموال، ويحظى هذا المقترح ببعض الاهتمام في عواصم أوروبية. إذ يعترف دبلوماسي في بروكسل: "سيكون من الصعب جداً الحفاظ على إجماع بخصوص تلك القضية"، بحسب ما نقلته المجلة البريطانية.
وزار سياسيون من ألمانيا والدنمارك مناطق في سوريا تسيطر عليها قوات النظام، ليُقيِّموا ما إن كانت "آمنة"، ويقول حزب "البديل من أجل ألمانيا" المعادي للمهاجرين إنَّها آمنة.
محاباة أمراء الحروب
وفي ليبيا، حيث ساعدت دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي على إطاحة معمر القذافي في 2011، يعملون الآن مع أمراء الحرب لجمع المهاجرين. وقدَّمت إيطاليا أموالاً لميليشيات محلية، تحتجز المهاجرين في ظروف غاية السوء، حيث يشيع التعذيب والاغتصاب.
ويريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن تجري فصائل ليبيا المتناحرة انتخابات في ديسمبر/كانون الأول المقبل. ويدَّعي أنَّها سترسي الاستقرار في البلاد. لكن الأكثر ترجيحاً أنَّها ستسحق العملية الانتقالية الهشة التي تدعمها الأمم المتحدة وتُعزِّز خليفة حفتر، الرجل القوي الذي يحكم الشرق.
ويقول مراقبو الانتخابات التابعين للاتحاد الأوروبي، إنَّ الانتخابات ستكون غير آمنة بدرجة يصعب معها مراقبتها. لكنَّ ماكرون يعتقد أنَّها ستساعد في إبقاء المهاجرين الأفارقة بعيداً عن الأراضي الفرنسية.
وضع الاتحاد الأوروبي سابقةً في 2016، حين طلب من أنقرة الحد من أعداد المهاجرين الذين يعبرون البحر المتوسط. وقد حصلت تركيا على 6 مليارات يورو (6.83 مليار دولار) في صورة مساعدة وإلغاء التأشيرات لسفر بعض مواطنيها إلى الاتحاد الأوروبي.
"القمع في مصر بلا حساب"
ويقول مسؤول في دائرة العمل الخارجي الأوروبي، التي تُمثِّل السلك الدبلوماسي للاتحاد الأوروبي: "رأت الدول العربية أنَّ هناك نوعاً من الهستيريا، وعلموا أنَّ بإمكانهم اللعب بتلك الورقة أيضاً".
ففي يونيو/حزيران الماضي، ترأس رئيس مجلس النواب المصري علي عبد العال وفداً إلى بروكسل، بينما كانت حكومته تحتجز آلاف المعتقلين السياسيين، حيث تعد مصر ثالث أكبر دولة تسجن الصحفيين في العالم، بحسب المجلة البريطانية.
وعند سؤاله عن هذا، قدَّم عبد العال دفاعاً مثيراً للضحك. فقال إنَّ احتجاز المدونين والنشطاء من شأنه أن يعني قصصاً إخبارية سلبية أقل حول مصر، وبالتالي مزيداً من السياح.
وحين ضُغِط عليه أكثر، انتقل إلى حجة مألوفة. فمصر بلدٌ يبلغ سكانه 97 مليون نسمة وعلى بُعد 220 ميلاً (354 كيلومتراً تقريباً) فقط من الاتحاد الأوروبي. كان التهديد واضحاً: إن كنتم تعتقدون أنَّ الأزمة السورية كانت سيئة، فتخيَّلوا ما سيحدث إن انهارت مصر.
ورأت المجلة البريطانية أن أسلوب الترويع هذا الذي تتخذه دول عربية وجدته فعَّالاً. إذ لم يُوجِّه الاتحاد الأوروبي إلا انتقاداً فاتراً للحكومة المصرية المدعومة من الجيش. وحتى هذا الصيف، لم يكن أيٌّ من تلك الانتقادات على الملأ.
كذلك استقبلت بريطانيا وفرنسا الرئيس عبد الفتاح السيسي في زيارات رسمية. وحتى إيطاليا تسعى لإقامة علاقات أوثق، رغم أنَّ طالب دراسات عليا إيطالياً لقي مصرعه في القاهرة عام 2016، وربما قُتِل على يد الشرطة. ويشكو أحد الناشطين المصريين قائلاً: "يتصرف الاتحاد الأوروبي مثل الشريك الصغير. حتى ترمب أكثر صرامة مع مصر (من الاتحاد)".
ولا تزال الظروف التي جعلت ملايين العرب يخوضون البحر المتوسط إلى الضفة الأخرى موجودة. فسكان مصر شباب، وفقراء، ومتململون. والميليشيات في ليبيا اليوم قد تكون وحشية تماماً بقدر ما كان نظام القذافي.
وختمت المجلة البريطانية بالقول: "وغنيٌ عن القول إنَّ الأسد ليس قوة استقرار. ربما ينجح الاتحاد الأوروبي في إعادة بعض اللاجئين للديار. لكن المزيد سيأتون".