تمكَّنت الصين من إقامة علاقات جيدة مع الأعداء الثلاثة إيران وإسرائيل والسعودية في وقت واحد، رغم ما تتسم العلاقات بينهم بالتوتر والشك، خاصة إذا تعلَّق الأمر بالنزاعات الدولية. وتتأرجح علاقات هذه الدول بين الصعبة وغير الموجودة، حيث تتسم علاقات المملكة العربية السعودية وإيران بخصومة شديدة، بينما لا تربطهما علاقات دبلوماسية مع إسرائيل على الإطلاق.
وتصطدم كل من طهران والرياض بصراع حلفائهما في سوريا واليمن وحتى في الصراع على السلطة بين حماس وفتح في فلسطين، على الرغم من أن كلتيهما تشكّ في تل أبيب فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني، بحسب ما ذهب إليه موقع BBC Mundo الإسباني.
تخوفات السلاح النووي، تجمع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية
في الوقت نفسه، ما يجمع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية هو التخوّفُ من إمكانية حصول إيران على سلاح نووي، ورفضُ توسيع نفوذها في المنطقة، كما أن كلتيهما حليفٌ عظيمٌ لواشنطن، وعدوٌّ لطهران.
وعلى الرغم من هذه الاختلافات، تمكنت قوة عظمى أخرى، وهي الصين، من نسج علاقة قوية ومتزايدة الصلة بهذه الدول الثلاث، دون أن تتأثر حتى الآن بهذه الصدامات.
يتبع العملاق الآسيوي استراتيجية شاملة تتعلق بالتقارب والتعاون مع القوى في الشرق الأوسط، التي أصبحت واضحة في الزيارات المتبادلة مع قادة هذه الدول خلال السنوات الأخيرة، والتي كان آخرها في يونيو/حزيران الماضي للرئيس الإيراني، حسن روحاني، للصين.
وتُبرز الصين قوتها الناعمة في الشرق الأوسط، حيث تبذل جهوداً ملموسة لزيادة التجارة والاستثمارات، لا سيما في قطاع الطاقة. كما تتفاوض الصين حالياً مع دول "مجلس التعاون الخليجي" على اتفاقية تجارة حرة.
وتقوم الشركات الصينية المملوكة للدولة ببناء مصاف مشتركة في المملكة العربية السعودية، كما نجحت في تأمين عقود لبناء مساجد -بما في ذلك ضريح بقيمة 1.5 مليار دولار- في الجزائر الغنية بالنفط.
وهذا النشاط الجديد يدفعه الإيثار. فأولوية الصين تكمن في تأمين استمرار الوصول إلى قطاع الطاقة في الشرق الأوسط. وفي الوقت ذاته، لا تريد بكين أن تصبح إيران دولة نووية. لكن الأهم من ذلك أنها ترغب في تجنب نشوب نزاع مع واشنطن بشأن العقوبات.
ومع ذلك فهناك انفتاح تاريخي في العلاقات بين الصين وإيران
وتعزّزت العلاقات بين الصين وإيران بعد الثورة الإسلامية في عام 1979، خاصة أن الجمهورية الإسلامية بدأت تعاني من العزلة على الساحة الدولية بعد أزمة رهائن السفارة الأميركية. وفي الحرب بين العراق وإيران (1980-1988)، كانت بكين مصدراً هاماً للأسلحة بالنسبة للإيرانيين.
وفي وقت لاحق، عندما بدأت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في بداية العقد الحالي في زيادة العقوبات على إيران، لمحاولة إيقاف برنامجها النووي، حافظت الصين على علاقاتها الاقتصادية وتبادلها التجاري الحيوي مع طهران، وهو ما سمح لطهران بالحصول على البضائع التي ترفض الدول الأخرى بيعها لها.
وقد استمرّ هذا الدعم حتى بعد عام 2010، عندما قرَّرت بكين دعم العقوبات ضد إيران في الأمم المتحدة.
لكن المنفعة كانت متبادَلة؛ فبينما تمكنت إيران من كسر عزلتها (وبيع نفطها)، حصلت الصين على مصدر وفير للطاقة، وسوق تبيع فيها منتجاتها دون منافس.
في الوقت نفسه، بسبب موقعها الجغرافي بين الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا، تعتبر إيران جزءاً هاماً من طريق الحرير الجديد، وهو أحد أكبر مشاريع البنية التحتية في التاريخ، وتستثمر فيه الصين مليارات الدولارات.
والآن، وفي مواجهة قرار الولايات المتحدة بالتخلي عن الاتفاق النووي المتفق عليه بين إيران و6 من القوى العظمى في العالم، أمام بكين مرة أخرى الفرصة لتكون المنفذ التي يسمح لطهران (بالتنفس) رغم هذه العزلة الدولية.
خاصة أنه في مارس/آذار 2017، وقَّعت الصين وإيران أوّل عقدٍ تجاريٍّ لإعادة تصميم وتجديد مُفاعل آراك لإنتاج المياه الثقيلة في فيينا، فى خطوةٍ مهمَّة نحو تطوير المفاعل للاستفادة منه في توليد الطاقة، وفقاً لوكالة شينخوا الصينية الرسمية. ولم يكن محلَّ صدفة وسط دعوات ترامب لكُل القوى الدولية لمقاطعة إيران والتحريض عليها، أن تعلن هيئة الجمارك الإيرانية في 31 ديسمبر/كانون الأول لعام 2017، أن حجم صادرات إيران من المنتجات غير النفطية بلغ خلال الأشهر التسعة الأخيرة 31.63 مليار دولار.
ووصل إجمالي حجم الصادرات الإيرانية إلى الصين إلى 12.78%، خلال الفترة ما بين مارس/آذار، وديسمبر/كانون الأول 2017، ولم يتأثر هذا التعاون بين الجانبين في عام 2018، العام نفسه الذي شهد تصعيداً من ترامب تجاه الصين، حول فرض حزمة جديدة من التعريفات الجمركية على الواردات من الصين، وصلت قيمتها نحو 60 مليار دولار، وتحديد الاستثمارات فيها، رداً على ما تراه واشنطن سنوات من انتهاك الملكية الفكرية، وسرقة التكنولوجيا من الشركات الأميركية.
تقول دينا إسفندياري وأريان طباطبائي، مؤلفا كتاب Triple-Axis: China, Russia, Iran and Power Politics، في مقال بمجلة فورين أفيرز "لم تتردد واشنطن في التحقيق مع الشركات الصينية مثل عملاقتي الاتصالات هواوي وZTE، ومعاقبتهما على ممارسة الأعمال التجارية مع إيران، ولكن ما زال لدى إيران سبب للتفاؤل".
وأضاف الكاتبان: "ما زالت الشركات الصينية الكبيرة تشارك بفاعلية في إيران، وسيقوم الكثير منها بملء الفراغ الذي خلفه انسحاب الشركات الأوروبية".
ليس مع إيران فقط، فالصين لها علاقات وثيقة مع إسرائيل
عندما نفكر في قوة عظمى على صلة بإسرائيل، فإن الرد الفوري، على الأرجح هو: الولايات المتحدة.
على الرغم من ذلك، طوَّرت الدولة العبرية والصين علاقة اقتصادية تنمو بمعدل غير متوقَّع، وخلال زيارة قام بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى بكين في عام 2017، تم توقيع اتفاقات ثنائية بقيمة 25 مليار دولار.
كانت زيارة بنيامين نتنياهو إلى بكين في عام 2017 مهمة لتعزيز العلاقات بين البلدين. بعد هذه الزيارة، قال نتنياهو إن الصين تساهم في ثلث الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة في بلاده.
وشهدت الزيارة اجتماع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بمضيفه الصيني لي كيشيانغ في العاصمة بكين، ودعا إلى بذل مزيد من الجهد لتعزيز الاستقرار الدولي. وقال نتنياهو لمضيفه، إن "هناك الكثير من الاضطراب في العالم"، حاثّاً البلدين على السعي لتعزيز "الأمن والسلم والاستقرار والرفاهية".
ورأس نتنياهو وفداً من 90 من رجال الأعمال الإسرائيليين، وهو أكبر وفد تجاري إسرائيلي يزور الصين حسب الإعلام الصيني الرسمي.
يذكر أن التبادل التجاري بين الصين وإسرائيل ازدهر منذ بدء العلاقات الدبلوماسية بينهما في عام 1992، إذ تتجاوز قيمة الاستثمارات الصينية في إسرائيل 6 مليارات دولار، بينما تستخدم الصين بشكل واسع التقنيات الإسرائيلية.
وكان الرئيس الصيني شي قد عبَّر في خطاب وجَّهه لجامعة الدول العربية، في يناير/كانون الثاني 2016، عن تأييد بلاده لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وقال إن الصين "تتفهم التطلعات المشروعة لفلسطين في الاندماج بالمجتمع الدولي".
وحجم الاستثمارات الصينية في إسرائيل يفوق الـ16 مليار دولار مجملها في التكنولوجيا والأسلحة
وفي الواقع، في عام 2016 وحده، بلغ إجمالي الاستثمارات الصينية المباشرة في إسرائيل حوالي 16 مليار دولار، ويعود جزء كبير منه عبر شراء شركات التكنولوجيا الإسرائيلية الفائقة.
كما تعدُّ هذه القوة الآسيوية مصدراً هاماً للسياح الأجانب في إسرائيل، حيث تضاعف عددهم بين عام 2015 وعام 2017 إلى أكثر من 100 ألف زائر في السنة.
إليوت أبرامز، عضو الحزب الجمهوري وأحد كبار الباحثين في قضايا الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية (CFR)، وهي مؤسسة فكرية مقرّها في واشنطن، يرى أن وراء هذا النهج أسباباً براغماتية بحتة.
وكتب أبرامز في تحليل على الإنترنت لـCFR: "تسعى الدولتان لتوسيع شراكاتهما خارج مناطقهما، والدخول إلى أسواق جديدة وتحقيق فرص تجارية؛ إذ تنجذب الصين إلى قطاع التكنولوجيا المتنامي في إسرائيل، بينما ترحب إسرائيل بالاستثمارات الصينية كشريك محتمل في أغراض البحث العلمي".
وأضاف أبرامز أنه يرى أيضاً في علاقة إسرائيل بالصين وسيلة لمقاومة المقاطعة، وسحب الاستثمارات من إسرائيل، والتى تروج لها دول أخرى.
على الرغم من أن حكومة نتنياهو قد أعربت عن رغبتها في ترجمة هذه العلاقات الاقتصادية المتنامية إلى تحول أكثر إيجابية مع الصين لصالح بلاده في الأمم المتحدة، إلا أن هذا لم يحدث بعد، بل في الواقع، تواصل بكين التصويت ضد إسرائيل في كل فرصة.
أما في السعودية، فتستثمر الصين في النفط هناك
في مارس/آذار 2017، سافر ملك المملكة العربية السعودية، سلمان بن عبدالعزيز، إلى الصين للقاء الرئيس شي جين بينغ، وكان اجتماعاً بين حاكم أكبر مصدر للنفط في العالم ورئيس دولة ستصبح المستورد الأول لهذا المنتج في نفس العام.
يقول ديفيد أوالالو، المحلل والمستشار في القضايا الدولية في موقع هافينغتون بوست: "السعودية مقتنعة بأن أسعار النفط لن تعود إلى سابق عهدها على المدى القصير (حيث كانت تبلغ أكثر من 100 دولار للبرميل)، لذا فإن هذا هو الوقت المناسب لتنويع أصولها الاقتصادية".
وأضاف أوالالو "وفي الوقت نفسه، هذه الخطوة ستفيد الصين، نظراً لطلبها المتزايد على النفط السعودي، بالإضافة إلى تعزيز وجودها في الشرق الأوسط في وقت يتنافس فيه الصينيون مع خصومهم الغربيين لتطوير البنية التحتية في المملكة".
وقَّع وفدا البلدين اتفاقات اقتصادية وتجارية بمبلغ يتجاوز 65 مليار دولار. وتريد السعودية بيع 10% من أسهم أرامكو للحكومة الصينية.
ومن الناحية الاقتصادية، أكد نائب وزير التجارة الصيني في أكتوبر/تشرين الأول 2017، عزم بكين والرياض إنشاء صندوق استثماري بقيمة 20 مليار دولار، موضحاً أن السعودية هي أكبر شريك تجاري للصين على مستوى غرب آسيا وإفريقيا.
في حين قال نائب وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي، إن المؤسسات السعودية مستعدة لدراسة تمويل نفسها جزئياً باليوان (العملة الصينية)، والصين مستعدة لتقديم مثل ذلك التمويل.
يُذكر أن العلاقات في مجال الطاقة بين البلدين قائمة بالفعل منذ فترة طويلة؛ فالصين هي الشريك التجاري الرئيسي للمملكة العربية السعودية والوجهة الثانية لصادراتها النفطية، بعد اليابان.
سياسياً، هناك توافقات وخلافات؛ ففي العام الماضي، عرضت بكين دعم الحكومة اليمنية، التي تحظى بدعم التحالف العسكري بقيادة المملكة العربية السعودية، وفي الوقت نفسه، بالنسبة للنزاع في سوريا، كان موقف الصين متحدياً لموقف الرياض إذ انحازت لحكومة بشار الأسد.
لذلك فالاقتصاد هو العامل المشترك بين الصين وإيران والسعودية وإسرائيل
ولكن كيف تمكَّنت الصين من تجنُّب هذه الصراعات في تطوير علاقاتها مع هذه البلدان الثلاثة المتصارعة؟
في حديثها مع موقع BBC Mundo الإسباني، تقول إميلي هوثورن، محللة شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مؤسسة ستراتفور، وهي منصة استخبارات جيوسياسيّة مقرّها أوستن (تكساس) "ليس هناك توافق يجمع إيران وإسرائيل والمملكة العربية السعودية، سوى أن ثلاثتهم سعداء بالتعاون مع قوة اقتصادية مثل الصين".
تقول هورثون: "لقد سعت الصين دائماً للحفاظ على علاقات مستقرة مع دول الشرق الأوسط دون التطرق للجانب الديني أو الأيديولوجيا السياسية، وتتجنب أيضاً اتخاذ موقف حازم تجاه الاتجاهات السياسية في هذه المنطقة متعددة الانتماءات، وركَّزت بدلاً من ذلك على ما يمكن الوصول إليه من تعاون اقتصادي، لذا فإن هذه الدول سعيدة بالتجارة والاستثمار مع الصين، التي لا تفرض أي أيديولوجية كما يفعل الشركاء الآخرون، خاصة الولايات المتحدة".
أيضاً، على عكس واشنطن، لا تتدخل بكين أو تضع شروطاً فيما يتعلق بسياسات حقوق الإنسان الخاصة بتلك الدول.
تشير المحللة إلى أن القوة الآسيوية العظمى لديها ثلاثة أهداف في الشرق الأوسط: الأمن في مجالات الطاقة، وتوسيع نطاق شركات التكنولوجيا التابعة لها، وضمان عدم تعرّض استثماراتها في طريق الحرير الجديد للخطر.
أضافت هورثون: "كل هذه الأولويات مرتبطة بعلاقات الصين مع إيران وإسرائيل والمملكة العربية السعودية".
تقول هوثورن إن بكين قد حقَّقت نجاحاً كبيراً حتى الآن في هذه الاستراتيجية، لكنها تحذّر من أن المزيد والمزيد من المشاركة في المنطقة سيصل إلى نقطة لا يمكنها فيها الاستمرار دون التعرض لبعض العواقب السياسية.
ومع ذلك، لا تتوقع الخبيرة أن تنشأ المشاكل مع إحدى هذه البلدان الثلاثة.
واختتمت "ستتعامل واشنطن مع النشاطات الاقتصادية للصين في إسرائيل والمملكة العربية السعودية كمنافس وتهديد لمصالحها الاقتصادية، وتعتبر أنشطتها في إيران تحدياً سافراً للعقوبات الأميركية على الدولة الفارسية".
وهكذا، فإن حدود علاقات الصين مع الشرق الأوسط لن يتم تحديدها من خلال إيران أو السعودية أو إسرائيل، ولكن من خلال الولايات المتحدة.