في إحدى الليالي، على عادتنا أنا وأبي نتناقش في شتى الموضوعات التي قد تتبادر إلى الذهن، أنا بطبيعتي أتحدث بكل الحماس والشغف، وهو بطبيعته يتحدث بكل هدوء، تستطيع أن تستشعر منه الشغف والحماسة أيضاً، ثم مضى جدال في موضوعٍ ما اختلفنا فيه حول كيفية التصرف، فكل منا كان يرى تصرفاً غير مماثل للآخر، أو بمعنى أدق كنا "عكس عكاس" في طريقة التصرف، فمثلاً إن كنت أرى التصرف بحدة شديدة فهو يرى التصرف بلطف، وإن كنت أرى أنه قد جانبه الصواب في رأيه وكنت حماسيا للغاية في النقاش وأحاول إثبات كلامي وإقناعه بكل ما أملك من أدوات إقناع، في نفس تلك اللحظات هو كان يمتص حماستي الصاخبة بهدوء عميق وابتسامة نبيلة لطالما نالا إعجابي.
كسر صمته مرةً قائلاً: "أحمد.. نحن مختلفان في الرأي نعم، لكن كلانا لسنا على خطأ، أنا لا أراك مخطئا وأرى أن وجهة نظرك وجيهة، لكني أرى أننا مختلفان فقط في الطريقة، وكلانا يصل إلى الهدف ذاته، لكل منا طريقته الخاصة التي يجيد التصرف بها، ربما اختلفت تجاربنا فاختلفت طرقنا، لكن المهم أن نصل إلى الهدف من وراء تصرفنا ذاك"، وأخبرني أنه لو استخدم كل منا تصرف الآخر وأسلوبه -ولو عن قناعة- فربما لن ينجح كلانا في تحقيق الهدف من وراء التصرف، فعلى كلٍّ منا أن يستخدم الطريقة والأسلوب اللذين يبرع فيهما، فقلت له بهمهمة: نعم أنت على حق.
استمعت إلى كلماته بإعجاب، وكنت مستمتعاً للغاية بما يقوله، مستسلماً لحديثه، استمعت كأنني أرى فناناً يرسم لوحة فنية بهدوء عميق، يجعلك أنت المشاهد تستغرق في جمالها، وشعرت حينها أن هذه الكلمات هي أكثر الكلمات التي سمعتها متعة وعبقرية، وإن اعتبرها البعض كلمات بديهية فسأضعها تحت مفهوم "أكثر الكلمات عبقرية وتأثيراً، وربما تكون هي أكثرها بداهة وقرباً للحقيقة".
ولا أرى أنه من المنطقي في ذلك الموقف أنني بينما كنت متحمساً ومتمسكاً بوجهة نظري للدرجة التي كنت عليها أن أستمع لكلماته بكل تلك المتعة التي تحدثت عنها.. لكن هذا ما حدث.
جدير بي أن أقول إنني بعدها بأقل من يوم، بينما كنت في الجامعة، وبمجرد أن جاء الموقف إلى خاطري اتصلت به وأخبرته أن هذا أكثر رد عبقري سمعته، وأنني استمتعت جداً بكلماته الحكيمة.
غيَّر هذا الموقف عندي النظرة إلى كثير من الأمور، فأصبحت أكثر احتراماً وتقبلاً لوجهات النظر والطرق الأخرى، وأصبحت أكثر تقبلاً للاختلافات التي لم أكن أتقبلها من قبل، حتى في كرة القدم، أصبحت أكثر احتراماً لأصحاب طرق اللعب والمدارس الأخرى التي لا أحب أن أراها، كما أني أصبحت أكثر تقديراً للأشخاص الذين يحترمون التناقضات عطفاً على الاختلاف.
لطالما أحببت التحاور والمناقشات، ولطالما كنت مقتنعاً بأن التحاور قد يأتي بما لا يأتي به أي شيء آخر من وسائل تقريب الخلافات أو الاختلافات، وأرى أن هذا الموقف كان إحدى الثمار الناضجة التي أتت من حصاد التحاور والمناقشات، التي لطالما منحها إياي أبتِ بكل حب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.