ما أسرع الأيام، لم أكن أتصور في يوم من الأيام أن أصير يتيماً وأحس بمرارة اليتم وأنا فوق الأربعين، وكأني طفل صغير لم يتجاوز العاشرة، وذلك لأن والدي كان نوراً يسير على الأرض بين الناس، هيا بنا نتعرف عليه، تخليداً لذكرى رجل من أهل الله وخاصته، لا نزكيه على الله.
في عام 1938 وُلد الشيخ عبد المنعم عبد السميع خليف، والدي، في قرية أم دينار بالجيزة في مصر، لم يرَ الشيخ نور الدنيا الفانية، فقد ادخر الله له نور العينين ليبدله خيراً منه، وليجعل له نور القرآن له هادياً ودليلاً، فلم يمنعه ذلك من طلب العلم، بل أنار الله له البصيرة، فسلك طريق القرآن، وهو طريق أهل الله وخاصته.
التحق والدي رحمه الله بأحد كتاتيب القرية، وفي سن صغيرة لم تتجاوز العاشرة أتم حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ عبد الحافظ أبو حَمَد، وهو من أهم مشاهير منشأة القناطر في هذا المجال، ثم تلقى على يديه رواية حفص عن عاصم.
ثم واصل الشيخ دراسته لعلوم القراءات؛ فتلقى على يد الشيخ إبراهيم أبو حمد روايتي قالون وورش، وظل حريصاً على طلب العلم حتى حينما وهنت عظامه وعلاه الشيب، كان يرسلنا في طلب الكتب، ويستعين بنا في تحصيل ما فيها، وسعى جاهداً ليلقى الله على ذلك، عالماً ومتعلماً، فاستعان بأهل الاختصاص في هذا الفن، يتكئ على عصاه، وبمساعدتي وإخوتي، ذهاباً وإياباً، طارقاً باب صديقه الذي يكبره بنحو عشر سنوات أو يزيد قليلاً، واسمه الشيخ ثابت أبو شعبان، وهو أيضاً من أشهر علماء القراءات في قُطر منشأة القناطر بالجيزة.
من مسجد البلد الكبير بأم دينار كانت انطلاقته، حيث استهل مشواره في عالم القراءة منه، بأدائه لسورة الجمعة، فأبهر الحاضرين ونال استحسان أهل الإقراء.
كان والدي حريصاً على الاستفادة من القراء السابقين من أمثال الشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ علي محمود، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ محمود محمد رمضان، والشيخ أبو العينين شعيشع، الذي كان كثير التأثر به، ساعده في ذلك تمتعه بحسن الصوت، وروعة الأداء وإحساسه بالآيات معبراً عنها في خشوع، فإذا ما قرأ آيات النعيم أدخل المستمعين فيه، وإذا ما انتقل إلى آيات العذاب، كأنك تحس بلهيب النيران، خوفاً ورجاء، وهو ما جعل له جمهوراً عريضاً ينتظرون قراءته بشوق ولهفة.
قرأ والدي الشيخ عبد المنعم مع عدد من قراء الإذاعة، منهم الشيخ فرج الله الشاذلي، والشيخ محمود أبو الوفا الصعيدي، والشيخ عبد الواحد زكي راضي، وغيرهم الكثير، فاستحسنوا أداءه وتعجبوا من عدم انضمامه لإذاعة القرآن الكريم المصرية، ربما لأن والدي كان يقضي معظم الوقت في التحفيظ والإقراء وإمامة المصلين.
كان للشيخ تاريخ حافل بمسجدي النصر وحواش بأم دينار، يؤم المصلين، ويقرأ سورة الجمعة.. أما التراويح، فلها شأن آخر، قصد مسجده الناس من كل حدب وصوب، من قريته وخارجها، يأتون مبكرين للفوز بالصلاة خلفه، وهو ما جعل مسجده يضيق بالناس، فتتراص الصفوف خارجه، ثم لاحقاً تم بناء دور ثان للمسجد ليتسع لرواده.
ظل الوالد ما يقرب من نحو 50 عاماً يؤدي صلاة التراويح إماماً، بل ارتبطت هذه الصلاة باسمه، فكان يقال صلاة تراويح الشيخ عبد المنعم بين جمهوره، يقيمها بجزء أو يزيد، حتى عندما بلغ من الكبر عتياً، لم يتخلف حتى تجاوز السبعين، وهو على هذا العهد، فيختم القرآن على مدار الشهر الفضيل.
التزم والدي الشيخ عبد المنعم خليف وِرْداً من القرآن، وهذا حال أهل الله وخاصته، كان يصلي الفجر متنقلاً يتلو آيات الذكر الحكيم حتى الشروق، كما يسهر مردداً للآيات ومُسبّحاً بخلوته.. وفي العصرية مجوداً يتغنى بالقرآن.
كان لوالدي كُتّاب عامر بالطلاب قصده الصغار والشباب والكبار، حيث كانت لديه موهبة في هذا الفن: "منذ نعومة أظافري أرى الأطفال يتحلَّقون حوله.. يجلس مبكراً يمسك مسبحته في انتظارهم.. والآن مِنهم قُراء، ومهندسون، وأطباء ومعلمون، وصحفيون".
أما عن ميراثه: "ترك سيدنا، كما يناديه أهل منطقته، لنا وللجميع، إرثاً عظيماً من التسجيلات المجودة، سُجلت بحفلات كثيرة وعزاءات وقراءة بأهم مساجد منشأة القناطر، ومصحفاً مرتلاً سجله عام 1995، تم نشره على شبكة الإنترنت صدقات جارية وعلماً ينتفع به الناس وهو خير ميراث".
حرص الشيخ على تنشئتنا على التعلق بالقرآن، فضلاً عن استكمالنا للتعليم، جامعاً بين الحسنيين، فحفظ معظمنا آيات الذكر الحكيم، حيث لم يتركنا والدنا هملاً، فقد حصل أخي الحاج جمعة على دبلوم التجارة ويتعلق بالقرآن، ويعمل بسلك الشرطة المصرية، وحصل أخي رجب على إجازة التجويد ودبلوم التجارة، وحفظ أخي أشرف معظم القرآن على يديه ويسعى لاستكماله، فضلاً عن ليسانس الحقوق، وحصلت أنا على تخصص القراءات العشر وليسانس الآداب وأعمل صحفياً، وأخي فتحي، مدرس، وقارئ معتمد بالإذاعة، فضلاً عن ليسانس الآداب والتربية، وأخي شريف مبتهل بإذاعة القرآن الكريم المصرية، فضلاً عن عمله بأحد البنوك، وحصوله على بكالوريوس التجارة ودرجة الماجستير".
ورحل الشيخ عبد المنعم
"كل نفس ذائقة الموت".. توفي الشيخ عبد المنعم يوم الإثنين 31 يناير 2022، عن عمر يناهز 84 عاماً، وأما مشهد وداعه فقد أدركت جيداً محبة الناس لوالدي، ووضع القبول له بين الناس، حيث كان مشهد وداعه مهيباً، حضر جنازته جمع غفير من الناس لا يحصون عدداً، من جميع مركز منشأة القناطر بالجيزة، بل ومن عدد من المحافظات، وعدد من كبار القراء والمبتهلين، وأقيم له عزاء مهيب كان بمثابة حفل تكريم لرجل وهب حياته وعمره للقرآن وعلومه.
أقيم لوالدي عزاء كان حفل تكريم أحياه عدد كثير من قراء الإذاعة والتليفزيون، وكثير من مبتهلي الإذاعة والفضائيات، وعدد من المسئولين، وأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب بمصر.
استمر عزاء والدي الشيخ عبد المنعم خليف إلى ما قبل الفجر بقليل، يجلس الجميع مصرين على المكوث لا يغادرون، حباً وكرامة لعلم قرآني من النادر تكراره، وبدلاً من حالة الحزن التي سادت المنطقة، تحول العزاء إلى احتفال، طمعاً في موعود الله له.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.