حكايات الموت.. ما بين غزة وسوريا

تم النشر: 2024/02/02 الساعة 08:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/02/02 الساعة 09:00 بتوقيت غرينتش
القصف الإسرائيلي على غزة/ الأناضول

استشهد، مات، قتل، تحت الردم، انقصف،… كل مفردات الموت حاضرة في غزة، كل قصصه وحكاياه وضحاياه حاضرون في غزّة، هو بطل الحكاية، وهو وحده على الخشبة فوقها، وتحتها، وبجانبها، وهو الجمهور والستارة، لا شيء إلا الموت، ولا أحد يبدو آمناً إلا من يأخذهم معه. 

تبحث عن أيّ شيء يعبّر عن الحياة، عبثاً تعود خاوياً بعد ساعات طويلة وأنت تقرأ الأخبار وتستمع للقصص والشهادات، الجميع يتحدث عن الموت، الجميع يعترف بإنسانيته التي يهزمها الموت في النهاية، لا أساطير، لا أبطال، لا ملاحم، لا قصائد سوى للموت وعن الموت وحول الموت، الجميع أموات ومتعبون إلا الموت، يتجوّل وحيداً في شوارع غزّة، يصافح الشباب، يلعب مع الأطفال، يخطف قلوب الفتيات، ويقدم العون للعجائز، يسند قلوبهم وأرواحهم التي هدّها الانتظار، فترفرف كالعصافير الصغيرة. 

الدماء والأشلاء والجوع والجروح والبرد، رفقاء الموت، يطوفون حوله، يتفقدون الجثث، ينبشون الأوجاع والقبور، يدفنون الأحلام، ويموتون أيضاً كلّ صباح، ثمّ يُبعثون من جديد في دورة الموت المتعاقبة!

شهداء في غارة إسرائيلية على غزة/shutterstock

كل هذا الموت، ويعجز العدو عن كسر كلمةٍ واحدة لطفلٍ صغير يجبره فيها على الاستسلام، يعجز كل هذا الموت عن وأد أشباح المقاومة التي تخرج من الفوانيس، ومن دخان الحرائق، ومن بين الركام لتدكّ جبروته العسكري بقذائف من أرواح السابقين، كل هذا الموت ولا تجد صدىً للوهن أو انكسار العزائم. 

لقد عشنا في سوريا تجارب مشابهة لما يحدث في غزة من موت وخذلان وخيبة، لكنّها لم تكن بهذا الاتساع وهذه المدّة الطويلة المستمرّة، لم تكن بكثافة هذا الموت في مثل هذه المساحة الصغيرة، كان عدونا أكثر توحشاً، ولكنّ أرضنا كانت واسعة، وأعدادنا كانت أكبر، وحربنا كانت وما زالت طويلة وممتدّة، ولا أريد أن أخوض في التفاصيل.. ولكننا أكثر من يدرك معنى أن تعيش في أحضان الموت والقصف والبارود واحتمالات الإعاقة والفناء وفقدان الأحبة..

لا حدود للألم في غزّة، لا حدود للجريمة التي يرتكبها الصهاينة بحقّ أهلها، لا حدود للموت الذي يعيشون معه في كل لحظة، حتّى صاروا خلقاً من موت، فلا تعنيهم الحياة إلا كما يريدونها، أقدام مغروسة في تراب غزّة وجباهٌ تسجد في محراب الأقصى وعلى ثرى القدس، ولا طرف ثالث لهذه المعادلة. 

هم بشر في النهاية، يخافون، يبكون ويتألمون، لكنّهم اختاروا قدرهم بحرية، اختاروا موتهم بحرية، اختاروا حربهم بحرية، واختاروا جهادهم بحرية، ونحن.. 

نحن فقط من يخاف من قدره وخيبته وخذلانه وحكامه، لم نعِش الحرية يوماً، ولم نختَر كيف نصنع حياتنا، ولا كيف نقرر موتنا، لم نستطِع أن نمدّ لهم يدّ الحياة، ولا يد المساعدة، لم نقدر على نصرهم ولا على مواساتهم.. وكيف نفعل؟! 

نحن المهزومون لا هم، نحن من يعيش تحت الاحتلال لا هم، نحن حكايات الموت لا هم، نحن فرائسه السهلة لا هم، نحن من يموتون كل يوم لا هم، نحن من يحكمنا الصهاينة لا هم، نحن من نعيش الوهن لا هم، قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حبّ الدنيا، وكراهية الموت".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد وديع العبسي
مدير عام صحيفة حبر السورية
صحفي سوري
تحميل المزيد