يذكر الكاتب مارك مانسون، في كتابه "فن اللا مبالاة"، جملة استوقفتني كثيراً، وأتفق معها تماماً؛ يقول: "إدراك الذات يشبه البصلة، في أن له طبقات كثيرة، وكلما قشرت هذه الطبقات، واحدة بعد أخرى، كان من المحتمل أن تذرف من الدموع الكثير".
ويتكلم عن المستوى الأكثر عمقاً في إدراك الذات، والذي يصفه بأنه أكثر المستويات التي تجعلنا نذرف الدموع بكثرة، على الرغم من سهولة السؤال الخاص بهذا المستوى.
كيف أختار أن أقيس نفسي؟ بأي معيار أحكم على نفسي وعلى الناس الذين من حولي؟
لماذا أعتبر هذا الشيء نجاحاً أو فشلاً؟ وما هي قيمي الشخصية التي أبذل المجهود لتحقيقها؟ ولماذا؟
ويؤكد الكاتب أن "لماذا" هو السؤال الأكثر صعوبة، وأن معرفة إجابته تتطلب قدراً كبيراً من الصراحة والصدق مع الذات، ويؤكد على المعالجين أن يهتموا بإجابة هذا السؤال مع عملائهم.
ويسرد قصة توضح أهمية إجابة هذا السؤال.
في عام 1983 تم طرد عازف الجيتار الموهوب "ديف موستين" من فرقته بأسوأ طريقة ممكنة؛ كانت الفرقة على وشك تسجيل ألبومها الأول، لكن الفرقة طردت عازف الجيتار قبل يومين فقط من بداية التسجيل، طردته دون إنذار أو مناقشة، ذهبوا إليه وأعطوه بطاقة العودة إلى البيت فقط.
وظل عازف الجيتار طوال رحلته في الحافلة عائداً من نيويورك يتساءل: ما الشيء الخطأ الذي فعلته؟ وماذا أفعل الآن؟ هل خسرت فرصتي الوحيدة في تسجيل ألبوم؟
ولكن استطاع عازف الجيتار تجاوُز رثائه لذاته، وأقسم على تأسيس فرقة جديدة في لوس أنجلوس تكون ناجحة إلى الحد الذي يجعل فرقته القديمة تندم على قرارها بطرده، وأن حفلاته ستذاع في التلفاز والإذاعة بينما أعضاء فرقته يتسكعون في الشوارع دون عمل.
وراح عازف الجيتار يعمل وكأن شيطاناً موسيقيّاً يتملكه؛ بدأ في البحث عن أشهر الموسيقيين ليعملوا معه، وكتب عشرات الأغاني وتدرب عليها بكل تفانٍ وإخلاص. كان غضبه وقوداً لطموحه. وفى غضون عامين فقط، تمكنت فرقته من تسجيل ألبومه الأول. وبعد سنة دخل ألبوم فرقته القائمة الذهبية.
وأصبحت فرقته الجديدة صاحبة شهرة أسطورية، وبلغت مبيعات تلك الفرقة حوالى 25 ألف نسخة، ويعتبر عازف الجيتار موستين من ألمع الموسيقيين وأكبرهم أثراً في عالم (الموسيقى الصاخبة).
ولكن من المؤسف له أن الفرقة التي طردته باعت أكثر من 180 ألبوماً، وتعتبر فرقة (ميتالكا) من أعظم الفرق على الإطلاق.
ونتيجة هذا أقرَّ موستين، دامع العينين في مقابلة تليفزيونية، أنه يعتبر نفسه فاشلاً على الرغم من النجاح الكبير الذي حققه هو وفرقته، إلا أن ذلك النجاح لم يكن كافياً له، وعندما سئل: لماذا فعلت كل هذا المجهود لبناء فرقة تنتج ألبومات مشهورة وتحقق نجاحاً في عالم الموسيقى؟ كانت إجابته: لأنتقم من طردي من الفرقة السابقة.
فأصبح نجاح ديف موستين، وتحقيقه لمكانته في عالم الموسيقى، وانبهار ملايين المعجبين به وبفرقته، ومليارات الدولارات بين يديه، لا فائدة منها له، بل ويعتبر نفسه فاشلاً؛ لأن فرقته التي تم طرده منها حققت نجاحاً وشهرة أكثر منه.
إذاً كان مقياسه الخاص الذي يقيس به نجاحه أو فشله هو مدى نجاح الفرقة التي تم طرده منها، وليس مدى نجاحه هو وفرقته وتطوره ومكانته الخاصة به.
لذلك يؤكد الكاتب أن الوصول إلى تلك الطبقة من إدراك الذات مهمة لإدراك بعض المشاعر التي تنتابنا من حزن أو إحباط أو مخاوف، والتي قد لا يكون لدينا سبب وجيه لتفسيرها، فلعل قيمنا الذاتية أو الطريقة والمقاييس التي أحكم بها على نفسي ومدى نجاحي في الحياة لا ترتبط بقيمي الخاصة، ونجاحاتي، ولكنها ترتبط بقيم لا أومن بها أو ترتبط بمدى نجاح الآخرين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.