رمضان موسم العبادة
يعتبر رمضان واسطة عقد العام لدى المسلمين، حيث يلتزم عموم المسلمين بالصيام طيلة الشهر والحرص على نوافل العبادات مثل التراويح والتهجد والاعتكاف والصدقات، وذلك لورود الأحاديث الشريفة التي تؤكد مضاعفة جزاء الأعمال في رمضان، مما يشكل فرصة ذهبية لتحصيل أكبر قدر ممكن من الأجر والحسنات.
كما يعمد كثير من المسلمين إلى تعظيم الأجر على بعض الأعمال الصالحات عن طريق أدائها في رمضان، فنجد من يجعل السنة المالية الخاصة به تنتهي في رمضان حتى يتمكن من إخراج زكاة ماله في هذا الشهر، وهناك من يحرص على تعجيل زكاة الفطر فيه لذات السبب، بل يذهب البعض إلى إخراج كفارات الأيمان والنذور كذلك في شهر رمضان، هذا بالإضافة إلى مختلف أبواب البر مثل الصدقات العامة والخاصة وإفطار الصائم وعمارة المساجد وغيرها من الأعمال الصالحة التي يسعى أصحابها إلى الحصول على الأجر من الله.
التجمع من أبرز مقاصد العبادات
من الملاحظ أن تجميع المسلمين وتوحيدهم من أبرز مقاصد العبادة، لذا فإن العبادات الجماعية في الأعم الأغلب تفوق ثواباً تلك الفردية، ولهذا السبب كانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد، كما أن هناك عبادات تتسم بكونها جماعية بطبيعتها مثل الحج الذي يجتمع فيه المسلمون في مكان واحد ليؤدوا ذات الشعائر معاً في مشهد مهيب يظهر فيه امتزاج المسلمين رغم اختلاف اللغات والثقافات.
يتميز الصيام بكونه عبادة تمزج بين الالتزام الفردي والترابط الجماعي، فالمسلم يلتزم بالصيام التزاماً صارماً رغم أنه من المستحيل أن يوجد رقيب من البشر يلاصق الإنسان طوال ساعات الصيام ليتأكد من مدى التزامه بأحكام الصيام، وكذلك يهيئ المجتمع أجواء عامة تساعد على الصيام والطاعات، فتظهر العبادات الرمضانية مثل صلاة التراويح، والعادات الرمضانية الفاضلة مثل موائد الإفطار والختمات القرآنية وغيرها.
فإذا نظرنا إلى العبادات بنظرة كلية عامة سنجد أنها تتضافر فيما بينها لتحقق قول الله تعالى ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92]، فالإسلام دين الأمة، وليس مجرد شعائر متناثرة يكفي في تمام أدائها أن ينزوي الإنسان بعيداً عن المفهوم الأشمل وهو مفهوم "الأمة الواحدة" ذلك المفهوم الذي تسعى العبادات كلها لتحقيقه، فالصلاة التي تتقيد بوقت محدد وصفوف منتظمة وكذلك الصيام في مواعيده التي تجعل المسلمين يأكلون معاً ويصومون معاً، والزكاة التي تجعل للفقير حقاً في مال الغني، والحج الذي يذيب الفوارق كلها لتتجلى صورة الأمة الواحدة كما أرادها الله تعالى.
خلافات كل رمضان!
يختلف واقع الأمة كثيراً عن التصور الذي يجب أن تكون عليه، ولعل هذا الاختلاف واضح في المجالات التي ترتبط بالسياسة والحكم وإدارة الأموال والثروات، حيث يجد البعض عذراً في الاحتلال الفكري والثقافي والعسكري الذي تعرضت له الأمة في سنوات طوال، ولكن التساؤل هو ما الذي جعل البون شاسعاً في مجال مثل العبادات والشعائر؟!
يأتي رمضان بالخلاف الأول المعتاد وهو طريقة احتساب رؤية الهلال، وهل يصح الاعتماد على الحساب الفلكي أم أنه ينبغي الاقتصار على الرؤية بالعين المجردة أو الأدوات المساعدة، وهو ما يقود إلى خلاف آخر حول إمكانية توحيد بداية الشهر الهجري ونهايته في العالم الإسلامي، بحيث يصوم المسلمون معاً ويفطرون معاً كما يقفون في عرفة معاً.
ثم يأتي خلاف عدد ركعات صلاة التراويح هل هي ثمانية أم عشرون، وحول مشروعية الذكر الجماعي الذي يؤديه المسلمون في بعض البلدان، وحول بعض العادات الاجتماعية التي ترافق الشهر الكريم مثل إنشاد الابتهالات وتعليق الزينات، وصولاً إلى الخلاف على إحياء ليلة القدر وتخصيص ليلة السابع والعشرين بمزيد من الاجتهاد وهو ما يراه البعض من البدع التي لا يصح الالتزام بها، بينما يرى البعض أن كل هذه الأمور لها مستند في السنة النبوية بصورة أو أخرى.
كذلك نستدعي في رمضان خلافات فقهية عامة لا تتعلق بالشهر الفضيل فقط مثل الخلاف على مشروعية استخدام المسبحة وصلاة التسابيح والقنوت في صلاة الصبح، ونستحضر خلافات لاحقة مثل الخلاف على مشروعية تعجيل زكاة الفطر وكذلك مقدارها وطريقة أدائها هل يكفي أن تؤدى بالنقود أم يجب أن تكون من الحبوب؟
كل هذه الخلافات وغيرها لم تسبب الكثير من المشكلات في عصور سابقة، حيث اعتاد المسلمون على تنوع المذاهب واختلاف الآراء والاجتهادات، وبقيت هذه الأمور في إطار البحث العلمي والاجتهاد الفقهي، ولم تتحول إلى منازعات شعبية تتسبب في إفساد بهجة الشهر المبارك كما نراه الآن في مختلف البلاد الإسلامية.
ما هي أسباب هذه الصراعات؟
لقد جاء الإسلام واضحاً نقياً لا تشوبه شائبة النقص أو القصور عن توضيح أي مسألة، وجاءت الخلافات بين المذاهب الفقهية المختلفة لتثري التنوع وتؤكد على مرونة الشريعة الإسلامية وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان، حيث تعتبر هذه المدارس الفقهية مخزوناً علمياً ذاخراً بالقواعد والمسائل التي يستفيد منها المسلمون حتى زمننا المعاصر، ولعل أبرز المشكلات هو الفهم الخاطئ للمذاهب الفقهية باعتبارها أحزاباً يتعصب المنتسبون لها وليس مدارس علمية يتعلم المسلمون في رحابها.
يعد السبب الثاني هو التعامل الخاطئ مع مسألة السنة والبدعة، حيث أخرجها البعض من كونها إطاراً علمياً دقيقاً يستخدمه المتخصصون في الفقه وأصوله إلى كونها عبرة مستهلكة يمكن لكل إنسان أن يصف شيئاً لم يسمع عنه سابقاً بأنه "بدعة" دون بحث علمي جاد، بل ودون امتلاك أدوات البحث العلمي في العلوم الشرعية!
والسبب الثالث هو تحول الكثير من الشعائر من مساحة الشعائر إلى مساحة أقرب إلى الفولكلور الشعبي، حيث تختلط الموروثات الثقافية بالأحكام الشرعية، وهو ما يؤدي إلى تشبث شديد بأمور بسيطة ليست من صلب العبادة ويمكن التنازل عنها من أجل تحقيق مقصد أسمى وهو وحدة المسلمين واجتماعهم.
وفي هذا الأمر ينقل الشيخ محمد الغزالي قصة طريفة فيقول:
"لقد رأيت أحد الحكام في يوم من الأيام يدخل المسجد بعد صلاة المغرب ليحضر حفلاً دينياً مبتدعاً، ويخرج قبل صلاة العشاء، أي إنه أهمل ركنين، وأماتهما، وأحيا خرافة وشارك فيها.. فأي تدين هذا؟!" ثم يشخص الداء بدقة قائلاً: "والمسلمون الآن مصابون بتدين الشكل، لا تدين الموضوع، والدين عندما يتحول إلى طقوس ومراسم يفقد قيمته".
والحقيقة أن التدين الشكلي هو الذي فرغ العبادة من مضمونها وجعل المساحة الأكبر من الاهتمام والتركيز بعيدة عن مقاصد العبادات وأهدافها، وهو ما يؤدي إلى حالات غريبة يتصالح فيها الناس مع انتهاك المحرمات أو إسقاط الفرائض ويتصارعون على مشروعية تكرار صيغة دعاء ما أو ذكر معين! والحقيقة أن المسلمين لو أدركوا ما يطلبه الله منهم من خلال شهر رمضان وعباداته لتغير تعاملهم مع الكثير من القضايا في هذا الشهر الكريم.
كيف نعيد مواسم العبادة مواسمَ للتجمع وليس للصراع؟
حتى تتحول مواسم العبادة إلى مواسم للتجمع والوحدة والتقارب بين المسلمين وليس الصراع والتنافر ينبغي أن يتوقف التوظيف السياسي لبعض القضايا الفقهية، وينبغي أن يقوم الدعاة والعلماء بدورهم في توضيح القضايا الفقهية وحل الخلافات دون إنكار للخلافات الفقهية الثابتة في كتب العلم، وكذلك ينبغي أن ينصب تركيز المسلمين في هذا الشهر الفضيل على ما أراده الله منهم وهو تحقيق التقوى في النفس والتكافل في المجتمع والوحدة في الأمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.