نحن اليوم في أول أيام شهر رمضان الكريم، ونحن في أيام اشتد حرها واندلع قيظها، فما أصعب الصيام في مثل هذه الأيام، وما أجزل الثواب الذي يحوزه من وفّقه الله لصيام تلك الأيام المعدودات، فأمام الثواب يهون كل صعب، والحكيم من عرف أن الأجر يكون على قدر المشقة، والله يضاعف لمن يشاء.
لكن الخاسر هو من صام وقام ثم عمد إلى كل هذا الجهد وأذهبه أدراج الرياح، الخاسر من ظن أن مجرد صيامه وقيامه يُدرجه في أهل الصلاح، فالكارثة الكبرى أن يعيش الإنسان حياته على أنه من أهل التقوى، ولا يكتشف حقيقة أنه كان أبعد الناس عنها، بل إنه كان في المعسكر المقابل لمعسكرهم -على الرغم من أنه كان يتزيى بزيِّهم ويلتزم بالعبادة كالتزامهم- إلا أنه يوم القيامة، ساعة حسابه، يجد الخسارة، وأي خسارة هي وأي حسرة "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً".
وتلك الخسارة لا تأتي في الغالب إلا لمن لم يفهم روح دينه، ولم يعلم أن مبتدأ كل عبادة لا يكون إلا بالنية، فإن صلحت صلح سائر عمله وإن قلَّ، وإن فسدت فسد سائر عمله وإن كثُر وزاد، وهذا هو المفهوم الذي ركَّز عليه الإسلام، لكي تكون كل حركة وسكنة يقوم بها المسلم نابعةً من صميم وجدانه، ولا يكون هناك انفصال بين الاعتقاد والعمل.
وبالعودة إلى الحديث عن الصيام فإنني وجدت أن دخول الشهر الفضيل يُشكل فرصةً ممتازةً لمن أراد أن يُراجع نفسه، وأرى أن كلنا يحتاج إلى تلك المراجعة، كلنا يحتاج أن يعرف ويسأل نفسه: أين أنا من صراع الحق والباطل الذي يدور في منطقتنا على أشده؟ وإلى أي فسطاط أنتمي؟ وهل أنا مدرك في الأساس أن أمتي تخوض صراع وجود؟
يجب قبل أن يدخل شهر رمضان أن نتذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: "مَنْ لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُّوْرِ والعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للّهِ حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ"، رواه البخاري.
يجب على كل فرد منّا قبل أن يبدأ في صيام هواجر الشهر الكريم، وقيام لياليه المباركة، أن يُراجع موقفه من قول الزور والعمل به، فلا تضيّق أفقك وتظن أن قول الزور لا يكون إلا أمام المحاكم، أو تتصور أن قول الزور ينحصر فقط في الغِيبة والنميمة على شدة ضررهما وخطورتهما على بنيان الأمة، فأي زور أضر وأشر من تأييد الطغاة، وأي زور أسوأ من "التطبيل" لمستبدٍ ضيَّقَ الدنيا على شعبه وأمته وجعلهم غرباء في بلدانهم التي ولد فيها آباء آبائهم، وماذا يكون الزور إن لم يكن التبريرَ لقتل الأطفال وسجن الأبرياء واغتصاب الحرائر.
يجب أن تتأكد أن صيام الدهر وقيام العمر وحج كل موسم وإقامة الفرائض الخمس لن تنفعك ما دمت تؤيد الظلم، وترضى بقطع ما أمر الله به أن يوصل، دون حتى أن تهتز شعرة في وجدانك، أو يتمعر وجهك على أقل تقدير.
فلا تصوموا رمضان قبل أن تراجعوا أنفسَكم في هذه الأمور الخطيرة، حتى لا تتفاجأوا يوم القيامة أنكم من الأخسرين أعمالاً، فلا تنفع الحسرة ولا الندامة.
تقبَّل الله صيامَنا وصيامَكم، وجنَّبنا وإياكم قولَ الزور والعملَ به.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.