اختر لنفسك جمهوراً أو مجموعة؟
يصف الفيلسوف وعالم النفس الفرنسي الشهير غوستاف لوبون انخراط الفرد في جمهور معين بأنه يطمس الشخصية الواعية لديه ويزيد من هيمنة الشخصية اللاواعية عبر توجّه الفرد كما الجمهور معاً في نفس المسار بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار.
ما هو الجمهور؟
كل واحد منا قد ينتمي مبدئياً لجمهور أو جماهير معينة. فوجودك ضمن مجموعة من الرفاق يعني انتماءك لهذا الجمهور. الجمهور هو مجموعة من الناس تتشكل في ظروف معينة تغلب عليهم الروح الجماعية بشكل لا شعوري.
الطوائف الدينية، مواطنو دولة، أفراد طبقة اجتماعية، زملاء مهنة، أعضاء حزب، أفراد الشلّة.. كلها أمثلة لجمهور يضم أفراداً بصفات وأنماط معينة قد تكون متشابهة أو مختلفة ولكنهم يتشاركون روحاً جماعية تجعلهم يحسون ويفكرون بطريقة متجانسة.
حاجة الإنسان لمجموعة تشبهه
كثيرة هي الأسباب التي تدفع شخصاً لأخذ قرار أو الاتجاه في طريقٍ يرسم له شخصيةً معينةً ويطبعه ويلزمه بها. ومن هذه الأسباب، إن لم يكن أهمها، بحثُ الإنسان عن مجتمع أو مجموعة أو جمهور يتقبله ويظهر نفسه فيه. الانضمام لأحد الأحزاب أو الجماعات هو مثالٌ على ذلك.
فقد تجد أحدهم قد نشأ في عائلة متدينة يميل إلى البحث عن مجموعة تشبهه، أو قد تجد من سافر للدراسة في بلد كثرت فيه الأفكار الشيوعية أو الاشتراكية فيتأثر بأفكار شبيهة بالمجتمع المحيط به. إنها الحاجة للذوبان في المجتمع، أو الاندماج في مجموعة تشبهه. لا ندرس هنا صوابيّة أي خيار من الخيارات، إنما فقط أمثلة نعرضها لتساعدنا على فهم الصورة الأبعد.
الآثار المترتبة عن الانخراط في جمهور
ما المطلوب إذاً؟ التحلّل والانسلاخ عن كلّ جمهور؟ بالطبع لا. ولو كانت الإجابة بنعم فستكون بعكس الطبيعة البشرية أو الحيوانية التي تدفع الفرد للاندماج ضمن المجموعة. ولكن وجب على كل من أراد فهم ذاته وطريقة تفكيره ودوافع تصرفاته أن يفهم معنى الجمهور والأثر الذي يتولّد من الوجود فيه وما يطبع شخصيته وما ينطمس فيها نتيجة لذلك.
لنأخذ على سبيل المثال حالة الفرد في مجموعة سياسية أو قبلية. فكثيراً ما نجده في حالة انجذابٍ وطاعة عمياء لزعيم الحزب أو القبيلة حتى إن قدرته على تمييز الأمور قد تنعدم ويصبح مُساقاً بعواطفه بالاتجاه الذي يرسمه زعيمُه. ولو أخذنا الفرد نفسه على حدة في معزلٍ عن مجموعته، لوجدناه قادراً على اتخاذ قراراتٍ في اتجاهاتٍ تعاكس تلك التي سلكها ضمن الجمهور.
إنها الصفة التحريضية التي يتمتع بها الجمهور كما وصفها لوبون، حيث يشبّه حالة الفرد داخل الجمهور بالمنوَّم مغناطيسياً، إذ إن بعض قدراته قد تكون مخدَّرة، وفي الوقت نفسه تُستثار فيه قدراتٌ تحريضيةٌ، غالباً ما تكون قوية ومؤقتة، كحالة الجمهور في السباقات الانتخابية أو الصراعات العائلية والقبلية.
مناقضة تصرفات الفرد في الجمهور لنفسه
ولدى مراقبة الفرد المنضوي في جمهور معين، تراه يقع في حالة ذوبانٍ داخل المجموعة تجعله يفقد بعضاً من قدراته. فبحجة عدم شقّ الصف قد يُنفّذ قراراتٍ ما كان سيَقْبل تنفيذها لو أُتيح له المجال وحده لأخذها.
فسرعان ما يبدأ الفرد بالابتعاد عن نفسه ويتحول ليصبح كالآلة تعمل عكس إرادتها. فالعجيبُ أن انخراط الفرد في الجمهور يجعله يفكر بروح جماعية ينتج عنها تصرفات وتحركات مختلفة عن التي قد تنشأ لو فكّر منفرداً وحده.
بعد أن يندمج الفرد في ذلك الجمهور، ويتعلم منه، ويصبغ نفسه بصبغة شبيهة بالناس المحيطة به، يكون قد حصر نفسه في غرفة صغيرة في هذا الكون الرحب وأغلق كثيراً من النوافذ، نوافذ أخرى تمنحه رؤىً جديدةً للعالم وفهماً آخرَ للأفكار الكثيرة من حوله.
فقد تراه مثلاً يذمّ الرأسمالية قبل أن يقرأ عنها أو يفقهها بشكل كامل؛ فمجرد دخوله في نادي الاشتراكيين يوجِبُ عليه التمسك بكل أفكارهم وذمّ كل الأفكار المعارضة حتى ولو لم يفقه عنها شيئاً بعد. وقد تراها تحارب الديمقراطية وترفض نقاشها لمجرد انخراطها في جماعة دينية. هذا ما يفرضه على الإنسان أن يصبغ نفسه بصبغة معينة. فالصبغة تكون شاملة وقلّما تتاح الحرية لانتقاء بعضها.
أثر الصبغة في شخصية الفرد
هذه الصبغة تطال وتؤثر بالعناصر اللاواعية في شخصية الفرد والتي يتشاركها مع أفراد الجمهور. ومع أن الفرد قد يمتلك عناصر واعية تميّزه عن الباقين، فإنّ العاطفة والتحريض الذي يتميز به الجمهور مجتمعاً هو الذي يتحكم في حركة المجموعة. وهكذا تزول الكفاءات العقلية والخصائص المميزة لكل فرد وتذوب في الصفات اللاواعية لدى الجمهور.
وهذا ما قد يفسر تحوّل احتجاجات سلمية الى أعمال عنف يقوم بها الجمهور الذي يضم أفراداً ما كانوا سيقومون بأعمال عنفية لو تُرك الأمر لكلّ واحد منهم منفرداً. إنه الشعور العارم بالقوة الذي يَسْتقيه أفراد الجمهور ويتيح لهم الانصياع لأعمال العنف بسبب غياب حسّ المسؤولية، فالجمهور بطبيعة الأحوال غير مسؤول.
وما الضير في الانضمام لجمهور أو مجموعة؟
لا مشكلة لو كان الانخراط في الجمهور يرفع الفرد في سلّم الأخلاقيات. فكثير من الجماهير كان لها الأثر الإيجابي الكبير على أفرادها وعلى البشرية. كالجماهير المناهضة للاستبداد والعبودية والعنصرية.
ولكن الثابت -حسب لوبون- أن الفرد أذكى وأعلى مرتبة وأعمق فكرياً من الجمهور، أو على الأقل هو قادرٌ أن يكون كذلك. كما أنه من الثابت أيضاً أن الفرد في الجمهور ميّال للسير في أعمال عاطفية كان من الممكن جداً ألا يسير فيها لو أنه كان خارج الجمهور. المسألة تعتمد على الطريقة التي يتم تحريك الجمهور وتحريضه بها (خيراً أم شراً). قد يكون نضالياً، بطولياً، أو خيّراً. وفي المقابل قد يكون إجرامياً. فاختر لنفسك جمهوراً..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.