"الأمل هو آخر ما يموت"
قرأت ذات مرة مقولة "Hope dies last" والتي تعني أن الأمل هو آخر ما يموت، وهذا صحيح، فكل شيء في حياتنا مبنيُّ على الأمل، حتى أتفه الأسباب، فهزيمتك بأكثر من هدف أثناء لعب البلايستيشن مع رغبتك الشديدة في العودة، قوامها الأمل.
وحين تدخل امتحاناً وتفاجأ بأنه صعب لدرجة لا تتناسب مع ما درسته؛ ستبقى حتى يعلن المراقب صافرة النهاية، وهو الأمل، الذي دفعك للبقاء كل هذه المادة تحاول.
الذين لا يُنجبون أظن أنهم لا يستسلمون للأمر، بل يحاولون، يذهبون إلى طبيب، وآخر، يتجهون إلى التحاليل، وسائل متطورة، كل هذا والأمل دافعهم ومحركهم الرئيسي.
مرضى السرطان أيضاً يعلمون أنهم في حرب وليست معركة، مع عدو سريع الانتشار، لكنك تراهم سعداء ولديهم قدرة غريبة على التحدي، كأن بداخلهم جيشاً يُسمى الأمل يحارب الدخيل الذي يريد إحباطه.
الرجل الذي ضاق رزقه لا يمكث في بيته لاطماً خديه، بل يخرج في كل صباح على أمل أن يتبدل حاله، والمرأة التي تراها في الطرقات تبيع أبخس الأشياء لتتعايش مع الغلاء خرجت بدافع الأمل. والفتاة التي تحبها وتتمنى الزواج منها بأي طريقة، مهما استعصت طرق الوصول إليها، من مهر، إلى تكاليف الزواج نفسه، إلى البحث عن منزل… إلخ، ما يدفعك للمواصلة من أجلها هو الأمل، والذي يُرفض في وظيفة ولا ييأس فيبحث عن أخرى، يفعل ذلك بدافع الأمل.
الأمل شيء مهم للغاية، نولد به ونموت به، لكي تكون سعيداً- كما قال توم بودت- لابد أن تمتلك ثلاثة أشياء فقط: شخص يحبك، شيء تفعله، وشيء تأمل به؛ لذا لا يمكنك أن تستسلم أبداً.
فينسو لومباردي، أحد أشهر مدربي كرة القدم الأمريكية يقول: "بمجرد أن تتعلم الاستسلام، سيصبح عادة".
في فبراير الماضي، خسرت كل شيء في أسبوع واحد، عاطفياً ونفسياً، وشعرت بأن الحياة تُضيق عليَّ الخيارات؛ كأنها تعاديني، ولم تكن هناك حيلة لمواجهة الأمر سوى الصبر، فالصبر هو الحيلة الوحيدة لمواجهة ما تفرضه علينا الحياة.
في ذات الوقت تقريباً، كنت أرى أن كرة القدم هي رابط أساسي بين حياتنا وبين النجاح؛ لذا، أحببت البحث عن قصص حياة معظم لاعبي كرة القدم، وأبدعت في الكتابة عنها وسردها، وكنت أظن أن هؤلاء، هم خير دليل على أن الحياة قد تغلق طريقاً لتفتح غيره.
لاحظت أن الغالبية العظمى من لاعبي كرة القدم عانوا الأمرين؛ حتى يصلوا إلى ما وصلوا إليه، في نشأتهم وحتى لكي يكتسبوا شهرتهم تلك، ومن السهل عليك فهم ذلك حينما يحقق أحدهم إنجازاً أو يفوز بلقب.
ستراه يبكي، وليس البكاء من الفرح فحسب، بل في مشقة الطريق وصعوباته التي قابلته، تحمُّل الانتقادات، التعافي من الأخطاء والهفوات التي، في رياضة ككرة القدم؛ مفصلية في كثير من الأحيان.
ريمونتادا برشلونة التاريخية
لكن ما جعلني مهووساً بفكرة الأمل، هو مقطع فيديو شاهدته منذ خمس سنوات، وكان عن برشلونة، تحديداً الريمونتادا التاريخية أمام باريس سان جيرمان.
وكان بعنوان "hope dies last" أي الأمل هو آخر ما يموت من الإنسان، أكثر من 24 دقيقة يمكنها أن تحرك فيك ألف ساكن.
لقد استطاع مصمم الفيديو، بعبقرية شديدة، أن يُظهر كيف يمكن للإنسان تدارك هزائمه ونكساته، حينما كتبت الصحافة العالمية بعد مباراة الذهاب "لقد انتهوا.. للأبد".
ثم عادت وكتبت "معجزة في الكامب نو.. إنهم لا يموتون أبداً" بعد مباراة العودة.
أعجبتني المقولة؛ مقولة "hope dies last" وبدأت أشعر بأن الله قد منحني قدراً من الشهرة، يمكنني من خلاله أن أُصدِّر للناس ما لم أجد من يمنحني إياه.
من هنا، بحثت أكثر عن قصص اللاعبين، وعرفت كم المعاناة التي عانوها لكي يصلوا إلى ما وصلوا إليه، ومعاناتهم في الوصول إلى مرحلة أن يحلموا أصلاً.
ولسنا الوحيدين الذين يربطون كل شيء بالظروف، فالصحافة العالمية تُدوِّن هذه القصص فور تحقيق أي لاعب لإنجاز.
ميندي وآخرون
فمثلاً، إدوارد ميندي ظل حتى الثانية والعشرين بلا نادٍ، وصديقته كانت على مشارف الولادة، وكان يحصل على معونة من الحكومة الفرنسية؛ كونه عاطلاً عن العمل، لكن كان لديه حلم، وأصر على أن يستمر في كرة القدم.
إدوارد لعب في كل الظروف الممكنة: لعب سنةً من دون راتب، لعب لرديف مارسيليا مع أنه أكبر منهم سناً، لعب في الدرجة الثانية، حتى وصل إلى تشيلسي.
وبعد سبع سنوات، إدوارد العاطل عن العامل، وأحلامه هي مجرد نادٍ يحتضنه ويوفر له راتباً مناسباً ولأسرته، يصبح إدوارد أفضل حارس داخل القارة، بل والأفضل في العالم- حسب تصنيف الفيفا- وتُوِّج، في أقل من سنة، بدوري أبطال أوروبا مع تشيلسي، وأيضاً بأمم إفريقيا مع السنغال.
ميندي كان وسيظل ملهماً بالنسبة لي، خاصة حينما يتعلق الأمر بالأمل، وحينما يتعلق أكثر بالركض وراء الأحلام، مهما بدت مستحيلة، وقال الناس عنها إنه لا طائل منها.
ولم يكن ميندي وحده هو المُلهم بالنسبة لي، بل إيميليانو مارتينيز كذلك، الذي سرد قصة عن معاناة أسرته، بالتحديد والده من مشقة الحياة وتضخم فواتيرها.
إيمليانو مارتينيز، أو إيمي مارتينينهو، هو واحد من أعظم قصص الكفاح التي قد تسمع عنها، في الحياة بشكل عام، أو كرة القدم بشكل خاص.
لأسرة فقيرة، ليست فقيرة فقراً عادياً، بل فقيرة مُعدمة، وُلد الابن، الذي كان يتفاجأ في وقت من الأوقات، كلما مر على والده، بأن والده يبكي؛ بسبب عدم قدرته على دفع المصاريف.
بالنسبة لأسرته، اللحوم كانت رفاهيات منسية، بالنسبة له كطفل يحب الحراسة، القفازات كانت حلماً صعب المنال، بسبب الظروف المادية. وشاءت الأقدار، أن ينضم إيمي لإندبيندينتي، ومنه إلى أرسنال.
وقتها، شعر إيمي بأنه يستطيع تحسين أوضاع عائلته بأكملها، ووعد والده بذلك، ووافق أن يُسافر إلى بلد لا يعرف عنها أي شيء، لا لغتها، ولا حتى أسلوب اللعب فيها.
خرج من الأرجنتين، ولم يحلم بأن يعود إليها في يوم من الأيام إلا وهو بطل، بطل حقيقي فعلاً، فظل قرابة العشر سنوات بين تخبطات الإعارة.
من 2010 حتى 2020، أعاره أرسنال 6 مرات متتالية، عقد من الزمان، عقد كامل، لعب خلاله مارتينينهو 15 مباراة فقط ليس إلا، ثم قرر أرسنال بيعه بصورة نهائية.
لقد انتظر فرصته، انتظرها طويلاً إذا تحرينا الدقة، التي منحتها له الأقدار بعد عشر سنوات، واتته فرصة ذهبية، مع المنتخب؛ لكي يقدم نفسه بطلاً، وقد كان، وأصبح الحارس الذي منح الأرجنتين نجمته الأولى في المنافسات القارية بعد غياب دام لأكثر من 28 عاماً.
وحالياً، هو حارس أستون فيلا الأساسي، وحارس منتخب الأرجنتين الأساسي، وواحد من أفضل حراس الدوري الإنجليزي الممتاز، والأهم أنه أصبح بطلاً أسطورياً في العاصمة بوينس آيرس.
وغيرهم ممن عاندتهم الحياة، لأنهم في النهاية بشر، والإنسان منا لا بد أن يركض وراء أحلامه، مهما بدت مستحيلة، ومهما قال الناس عنها إنه لا طائل منها.
فحينما قال ستيفان تشبوسكي إن الحياة لا تتوقف على أحد، الأصدقاء يرحلون، والأشياء تتغير؛ كان محقاً بالفعل.
وبين الماضي، والحاضر، استطاع إيميليانو مارتينيز أن يظهر إلى العالم، ويجني المال الذي حُرم منه، واستطاع إدوارد ميندي أن يُوفر راتباً كبيراً لأطفاله، بعد أن كان يتلقى المعونة من الحكومة الفرنسية، لأننا في نهاية المطاف (بشر) تضربنا الحياة يوماً، وتُصالحنا في أيام أخرى، وفي ضرباتها؛ لا تُفرق أبداً بين لاعب وموظف وعامل.
ومن هنا نشأت فكرة Hope dies last وللأبد، لن تموت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.