كل عام عندما أرى احتفالاً ما سماه البعض بعيد الحب أشعر باستغراب شديد، وتثور في ذهني مجموعة من التساؤلات حول إصرار البعض على الاحتفال بهذا اليوم على سبيل الحصر، باعتباره عيداً للحب.
تكلم الكثير من الأفاضل حول مدى مشروعية الاحتفال بهذا اليوم، ومنهم من تكلم أيضاً حول المرجعية الغريبة عن مجتمعنا لهذا اليوم، ولكني هنا أتكلم من زاوية أخرى، وهي الأسئلة التي أسألها لنفسي كلما ثار الجدل حول هذا الموضوع.
هل يمكننا حصر الاحتفال بالحب في يوم بعينه، وهل يمكننا حصر الاحتفال به عن طريق ارتداء نوع معين من الألوان، أو إهداء نوع معين من الهدايا؟ أليس هذا تقزيماً للحب؟
أليس الحب أعمق وأهم من أن يختزل في يوم واحد، أو في لون واحد، أو في نمط واحد من الهدايا، وأساليب التعبير النمطية التي لا أعرف كيف لا يشعر الناس بالملل منها.
فالحب لا يخالط عملاً إلا خرج به أجمل ما يكون، ولا يخالط ألماً إلا هان كأنه لم يكن، الحب أساس من أسس الوجود، إذا اختفى من الأرض فاعلم أنها في أيامها الأخيرة، فالساعة ستقوم على شرار الخلق الذين لا يملكون في قلوبهم ذرة من حب.
فعندما أراد الله سبحانه وتعالى إدخال الأُنس على قلب سيدنا آدم في الجنة رزقه بالسيدة حواء لتؤنس وحدته، وعندما أراد -جل شأنه- عمارة الأرض أسكن السيدة حواء في قلب سيدنا آدم، وألف بينهما وجعل المودة والرحمة دستور اقتران الرجل بالمرأة، فواجها معاً مشاق الأرض ومشاكلها، فكان الحب من معينات الله لهما في هذه الحياة، وسبباً في إعمار الأرض، وأحد أهم أعمدة ازدهار الحضارات، ومقياس تقدم الأمم أو تخلفها.
فالنظام الأسري الذي يكون من أهم أسباب تماسك الحضارات أو تخلفها لا نجاح له بغير الحب بين الزوج وزوجته، وحبهم لأبنائهم الذين يبادلونهم حباً بحب، لا يموت بموتهم بل يورث كابراً عن كابر، ذلك الحب الذي يكون نواة الأسرة التي تعتمد عليها أي حضارة تريد لنفسها الاستمرار والازدهار في مواجهة الحياة.
الحب شعار أهل الجنة، فبه استحقوا دخولها، وهو المكافأة الكبرى التي سيتمتعون بظلالها في جنان الخلد، دخلوا الجنة لأنهم أحبوا الله جل جلاله ولأن الله يحبهم، لم يتركهم وحدهم دون إرشاد، فأرسل إليهم رجالاً منهم، أحبوهم لأنهم علموهم الحب الذي استمدوه ممن أرسلهم -سبحانه- ولأنهم جسدوا لهم معاني الحب في صور حية، أصبحت نموذجهم الأسمى في الحب، فأصبحوا نجوماً ترشد كل من أراد السير في درب الحب.
فكل من يقرأ سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقلب حاضر، لا يملك إلا أن يغسل قلبه بدمع الحب والشوق إلى صحبة هذا الرجل الذي لم يسمح أبداً للدنيا بكل أحوالها من خير وشر أن تدنس قلبه المحب.
فهو الرجل الذي خاض المعارك الضارية دون أن يُكره أعداءه لذواتهم، بل دعني أقول إنه لم يخُض تلك المعارك إلا بدافع حبه لهم وخشيته عليهم، ورجائه أن يستخرج من نفوسهم ينابيع الحب التي أودعها فيها الخالق -جل وعلا- وإلا فكيف تفسر انبهار أشدهم ضراوة بشخصه بمجرد اهتدائهم لتلك الحقيقة.
وما عليك إلا أن تنظر لمآل شخصية مثل سيدنا عكرمة بن أبي جهل -الذي صرف الجزء الأكبر من حياته في كراهية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومحاربة دعوته، بل إنه قد ورث هذه الكراهية كما يتبين لك من اسم والده- لتشعر بحقيقة قولي.
وهو صلى الله عليه وسلم الرجل الذي وقعت الدنيا تحت أقدامه، فأشاح بوجهه عنها وأعطى منها لمن يعرف أنها قد ترقق قلبه، حتى قالوا عنه إنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
المشكلة الأساسية التي نعاني منها الآن هي تسطيح وتقزيم عاطفة الحب، حتى إننا أصبحنا نريد حصرها في نماذج مؤطرة، الخروج عنها أصبح خروجاً على الحب في نظر بعض من تمَّت تربيتهم على تلك النماذج، التي تحاول حبس أهم عاطفة على الأرض، وعدم الفهم الكامل لعاطفة الحب وما تعنيه هو السبب الأساسي في الانهيار السريع الذي تتعرض لها مجتمعاتنا، وما عليك إلا أن تلقي نظرة سريعة على أي محكمة خاصة بشؤون الأسرة لتعلم مدى هذا الانهيار!
حل هذه المشكلة أن نضع الحب في مكانته الحقيقية التي تليق به، وفهم حقيقة أن الصورة الساذجة التي يصدرها الإعلام لا تمثل كل الحبّ، بل إن التضحية والصبر وتحمل المشاق أجزاء لا تنفك عن الحب، وهي الجوانب التي تم إغفالها عند تربية الشباب، فتصيبهم صدمة عندما يجدوا أن الواقع مختلف عن الصورة التي تربوا عليها فيظنوا أنهم لم يجدوا الحب الحقيقي، فتضيع أعمارهم وأسرهم التي أنشؤوها في بحثهم عن سراب الحب الذي لم يعرفوا حقيقته يوما.
أسال الله أن يرزقنا جميعاً بحب يصل بنا إلى سعادة الدنيا والآخرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.