غريب أمر البعض، يقذفون بالمسلم خارج إنسانيته، بما يغرقونه فيه من تحريماتهم الناسفة لكل حقوقه المتاحة عرفاً وقانوناً وحتى شرعاً، مثل حرمانه من الاستمتاع بالحب نفسه وذكرياته الجميلة، ويستقبحون عليه ممارسة مشاعر المحبة بكل معانيها وقيمها السامية التي فطره الله عليها، بحجج ساذجة لا يصدقها العقل الناضج، وادعاءات واهية لا يقبلها المنطق السليم، المعتمدة أساساً على ما تعوّد عليه البعض من نظرية المؤامرة والتبعية للغرب أو الغزو الفكري والثقافي، تحت ذريعة "أنه لا حب إلا لله" بمعنى أنه لا حب يصح بين البشر!
وكأن حب الغير يمنع حب الله، الحب الذي ورد لفظه ومشتقَّاته في القرآن أربعاً وثمانين مرة للإخبار عن حُبِّ الله لعباده، وحُبِّهم إياه، والتي منها قوله تعالى: "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ" (آل عمران: 31)، وقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً" (مريم: 96)، وقوله تعالى: (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (هود: 90)، وقوله تعالى: "وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ" (البروج: 14)، وقوله جل وعلا لكليمه موسى: "وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي" (طه: 39).
فلا يرى موسى أحدٌ إلا أحبَّه، مما ألقى الله جل وعلا عليه من قبول، وما يجده في قلوب المؤمنين من محبةٍ وودٍ له، والذي لا يُنال إلا بالإيمان والعمل الصالح ومحبة الناس، كما اشترط الله ذلك في سورة مريم: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً" (مريم: 96).
كيف علمنا النبي الحب الحقيقي؟
في الحديث الشريف يقول رسولنا ونبينا المحب المحبوب صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا". رواه مسلم، بعد هذا وغيره كثير، ما الذي يمنعنا من الاحتفاء بمعاني الحب والمحبة الجميلة، ونمارس مع الذين نحبهم ذاك السلوك الإنساني الإيجابي، الذي يوحِّد الناس، ويُهذِّب الطباع، ويُرقِّق المشاعر، ويُبعد عن وحشية الكراهية وشرور الحقد، ويُسهم في خلق الفرح والبهجة والسرور.
الحب وحده، الذي لا ينحسر ضمن إطار واحد أو اتجاه واحد أو شخص واحد فقط، بل ذلك الذي يعني أمتع وأرق المشاعر التي تصيب الإنسان، وأكثر التجارب التي تؤثر في النفوس تأثيراً عذباً، التي الأصل فيها الإباحة لا التحريم، كرابط طبيعي عجيب ينمي بذور العطف والخير والشفقة في النفوس، ويعفي الناس من التملق والنفاق، ويجعل الجميع يعيشون في جوٍّ من التسامح والود والوئام، الذي من المفترض أن يهيمن على العلاقات الإنسانية.
كما يجعل الحب الناسَ شموعاً تذوب لكي تنير طريق الخير والتضامن والتعاون والتآزر والتعاضد، كغاية نزلت من أجلها كل الديانات السماوية، وعلى رأسها الإسلام، الذي لا يوجد دين يحث أبناءه على التحابّ والتوادّ والتآلف وإظهار العاطفة والحب أكثر منه، حتى إنه جعل الحب -بمعناه القيم- سر الوجود وسبيلاً لدخول الجنة.
كما حثّنا النبي صلى الله عليه وسلم على نشر الحب وإفشائه على أوسع نطاق كما في الحديث الشريف "إذا أحبَّ الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه"، رواه أبو داوود والترمذي، وهو حديث صحيح، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا تحابوا". رواه البيهقي.
وفي حديث آخر رواه مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرسل الله له على مدرجته ملكاً… فقال إن الله قد أحبك كما أحببته فيه".
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليبين له، فإنه خير في الألفة، وأبقى في المودة"، وذلك لأن إظهار المشاعر الطيبة، والعواطف النبيلة، وإشاعة السلام والتواد والتكافل بين الأفراد والجماعات ينمي قيمة الانتماء للآخرين، والقبول بالعيش معهم بسلام ومحبة، ويحقق التماسك والاستقرار الاجتماعي وينشر التسامح، ويعمم خصلة الاهتمام بهموم الغير وظروفهم.
كما جاء في الحدث الشريف: "مَثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى"، فلماذا بعد هذه الدعوات الصريحة لإظهار الحب والإفصاح عن المشاعر بكل الطرق والوسائل الطيبة المشروعة لا يُفصح الإنسان عن حبه، أو لا يحتفي به؟
وتقول الروائية الإنجليزية "جورج إليوت" (ماري آن): "إن الحقد والكراهية الأشد قسوة، هي تلك التي تمد جذورها في الخوف ذاته وتتكيف عبر الصمت، وتحول شعور العنف إلى نوع من شعور الرغبة في الانتقام بشكل يشبه طقوس الثأر الخفية، تؤجج من غضب وحقد الإنسان المضطهد".
كما قال الشاعر: الحقد داءٌ دفينٌ ليس يحمـلهُ إلا جهولٌ مليءُ النفس بالعلل
الحقد الذي لا يخلص منه غير الإفصاح عما يضمره المحب من مشاعر مرهفة، وعواطف نبيلة راقية تميّزه عن غيره من الكائنات الحية الأخرى، كصاحب رسالة إنسانية خالصة هي الحب.
فأنا هنا حينما أدعو الناس إلى التعبير عن الحب، فإني لا أقصد التقليد الأعمى لكل مظاهر صرعات الموضة السائدة في زمن العولمة والرأسمالية المقتصرة على الاحتفال بشكل معين، وإنما أشترط أن تتوافق مع تطور الحياة والمجتمعات، وتتلاءم مع شريعتنا السمحة، ومقتدية بقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، التي تشمل جميع العلاقات الإنسانية الراقية، حتى تعود الحميمية للحياة الاجتماعية بعد أن هربت منها اللحمة والتعاطف والمودة، وأصبحت الأنا طاغية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.