دعني أسألك: لو خيَّرتُك بين صنفين من أطعمتك المحببة، فكم من الوقت ستحتاج لتفاضل بينهما؟
ولو ارتفع عدد تلك الأصناف إلى أكثر من ستة مثلاً، هل ستحتاج لوقت أكبر في مفاضلتك تلك؟
كذا الأمر بالنسبة لاختصاصك الجامعي، هل ستستهلك وقتاً أطول لتقرر الأفضل كلما ارتفع عدد الخيارات المطروحة؟ بل السؤال الأهم هو: هل ستكون راضياً عن خيارك ذاك تمام الرضا فيما بعد؟
ذهبتُ ذات مرة إلى بائع العطور، وكنت قد اتخذت قراراً مسبقاً باسم العطر الذي أنوي اقتناءه، وحين وصلت إليه نحّيت قراري السابق جانباً، وطمعت في عطر جديد أكثر تميزاً، فسألته النصيحة، ليبدأ هو بتعداد أسماء متنوعة، يرافق كل اسم منها شذىً أستنشقه ليساعدني على الاختيار، وكلما زاد المعروض طلبت المزيد! حتى أزكم أنفي بالروائح، واختلطت عليه الأرائج، ثم إذ بأحرف الأسماء الغريبة تتداخل كذلك في عقلي!
أذكر يومها أنني خرجت من عند البائع الساخط بدون عطري الأول الذي عزمت عليه مسبقاً، ومن دون الثاني الذي طمعت في نيله بعد استكشاف المعروض.. عدت خالية الوفاض تماماً!
"التنافر الإدراكي" مفهوم يعكس العجز الذي تمر به حين يعرض عليك العديد من الخيارات، دون أن تملك قدرةً على انتقاء الأفضل، ما يجعلك مرتبكاً، مهزوز الثقة، متردداً في حسم خيارك، وربما تصاب قدراتك الاختيارية بالشلل.
وهذا تماماً ما حدث معي لدى العطّار، فحين أصبحت الخيارات أمامي لا محدودة نوعاً ما، يحفّها التنوع ويتطاول عليها التعدد فقدت تركيزي، وتناهيت إلى منطقة العجز، خالعةً عنّي رداء الاختيار، رافضةً المعروض بالمجمل.
وهو -أي التنافر الإدراكي- ظاهرة أخذت مجدها إثر ثورة الإنترنت التي ألغت حدود المساحات، وحوّلت العالم إلى قرية مصغرة تحكمها العولمة، ويرفع كرسي عرشها التطور المعلوماتي المستمر.
حيث تمزّق الثوب الضيّق للخيارات والمعروضات التي انطوت عليها تسعينات القرن الماضي، وغدت ترفل في عباءات فضفاضة تتسع لأجسم الأفكار وأضخم أعداد المطروحات للاختيار، وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فإن الشباب العربي لم يعُد يأسِر خياراته الرياضية في منتخب بلاده أو نادي محافظته، بل تعدَّى الوطن العربي أجمع ليصل إلى مدرجات المنتخبات الأوروبية ونواديها، من ريال مدريد إلى برشلونة وليفربول وغيرها مما لا عدد له، ليغدو التعايش مع أجواء هذه الفرق أشبهَ بالتعايش مع أجواء فريقٍ محلي يلعب فيه المشجّع ذاته، حيث الشعارات والشجارات والتعصبات والتراشقات التي لا تنتهي.
كذا كانت المادة الإخبارية المعروضة قبل ذلك الحين تتمثل في قناة إخبارية واحدة، تبث رأياً ومنطقاً إخبارياً له نفس السجع والوقع على أسماع المشاهدين، حيث لا تكاد تتغير وجهة النظر الإعلامية، ولا تخرج عن شنشنتها المعتادة والمعروفة مسبقاً، لتتحول اليوم إلى أرض مندوحة، تحمل على سطحها مزارعَ إخبارية تشسع مساحاتها، وتتباين تُربها، ويتنوع فيها التحليل للخبر الواحد بما يزيد عن عشرات التحليلات، وتهبنا بعضاً من وعي بالأحداث المتداعية في جنبات هذا العالم، أو بعضاً من حيرة.
وإني أخال المعروض الثقافي واقعاً هو الآخر في محيطات التنوع، فبينما كانت أسماء الأدباء قبل غزو العولمة تكاد تكون مترسخة في أذهان زمرة المثقفين، وربما يُلمّون بإنتاجها وفكرها كله؛ أصبح اليوم عدد الكتاب والمتسولين على أرصفة الأدب يكاد يساوي عدد القرّاء، إن لم يتفوق عليه! فتحتار إذ نويت أن تختار بين أغلفة الكتب المعروضة، إن لم يكن لديك خلفية ثقافية كافية لحمايتك من الوقوع في إغراءات الأغلفة اللامعة والأسماء اللافتة، والتي ربما تنطوي على اللاشيء واللاأدب.
فالكل اليوم بات باستطاعته تقديم فكره مهما يكن على شكل كتاب، دون رأفة بقلب الأدب، فإن لم يحظَ أحدُهم بفرصة لنشر ورقي؛ فأبواب النشر الإلكتروني مفتوحة لكلِّ من هبَّ ودب.
مما سبق نجد أن التقارب الفكري، أو الأرضية الموحدة التي كانت تُلملم أفكار ومنطلقات أبناء التسعينيات، قد دخلها غزو تعدد الخيارات، ليحشرها في معترك التنافر الإدراكي، فلا أنت -لو عدنا لطعامك وخياراتك الجامعية- ستحسن الاختيار لو تعددت الأصناف، ولن ترضى عن اختصاصك الجامعي فيما بعد لو تشعبت الخيارات، وستدخل في بوتقة الـ "لو"، فلو اخترت الصنف السادس من الطعام بدلاً من الثالث مثلاً لَربما كانت معدتك سترضى عنك، وتهلل فرحاً بذائقتك.
ولو أنك اخترت ذاك الاختصاص بدلاً مما وقعت عليه بعد حيرة تجاذبتكَ واستهلكتْ وقتك؛ لكنت الآن في منصب أعلى، ووضع مادي أكثر إغراءً.
وإني لأعتقد أن دهانقة العولمة وروّادها قد أحسنوا استغلال الثورة المعلوماتية، لإطعام ثقافات وأفكار وقيم للعوالم التي فتحت أفواهها بنهم، ملتهمةً كلّ معروض جديد على "بسطات" التكنولوجيا، وذاك على حساب ثقافات أخرى، وقيم مغايرة، حيث يقول في ذلك الكاتب المغربي عبدالإله بلقيزر "العولمة كما يدعي روادها هي انتقال من مرحلة الثقافة الوطنية إلى ثقافة عُليا جديدة عالمية، وهي اختراق تقني يستخدم وسائل النقل والاتصال لهدر سيادة الثقافات الأخرى للشعوب، وفرض الثقافات الغربية".
إلا أننا لن ننكر أن تنوع المطروح وتعدد الاختيارات قد فتح أيضاً أبواب التبادل الفكري والخبراتي، ومنحنا نظرةً كافيةً عن طبيعة الشعوب الأخرى وثقافاتها، كما أننا وبالطبيعة البشرية نحب أن نعتقد أننا غير مسيّرين باختياراتنا، بل أحرار، لنا كامل الحق في انتقاء ما نريد، ولكن ذلك إن لم يكن منوطاً بقدرة بديهية عالية، أو زائداً عن التعدد المعقول؛ فإنه قد يلقي بنا في ثلاجات التجمد الفعلي، أو التراخي والتسويف، وإصدار قرارات مهزوزة باختيار خاطئ مبني على اطلاع مكثّف خاطئ، كان من الممكن تجنبه لو كانت مداركنا انحصرت في خيارات أقل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.