نحنُ الذين نقولُ في كلِّ مناسبة -أو بدون مناسبة حتى- إن أعظم أحلامنا هي "فيزا لبرات البلد"، ونسخرُ مِن كلِّ مَن يكتب للوطن رسائلَ حنينٍ معبقةٍ بدموع الاغتراب، وننصحُ كلَّ بعيدٍ بعدم التفكير بالعودة، لسنا أقل وطنية من أيٍّ منهم، ولسنا جاحدين للعشرة، ولسنا أقل انتماءً من غيرنا، ولا قيد أنملةٍ حتى، ولا نتنكر لأصلنا وفصلنا، ولسنا جيلاً تافهاً يستبدل الوطن بأي فتات آخر راكضين وراء الصرعات أو الرفاهيات التي لا داعي لها، ولكننا رأينا خبايا الوطن كلها، وأُلقيت على أكتافنا الهشة أحمالٌ نفسيةٌ ثقيلة، تجرَّعنا الخيبات فيه حتى بات حلُّنا الوحيد هو أن نحوِّلها لنكات سوداء سمجة، نحاول أن نضحكَ عليها كي لا نختنق بها إذا ما راكمناها بداخلنا.
نحن كلما حاولنا أن نقف نتلقى صفعةً جديدة منه لتعود رؤوسنا للأرض وتردد قلوبنا التي تحاول أن تعتاد: "معليش ضرب الحبيب زبيب".
لكن الحبيب لم يشبع من الضرب، والزبيب بات أغلى من أن يُحكى عنه حتى إثر كلِّ ضربة، هذا عوضاً عن أن يؤكل، والقلب سكت عن الكلام وقد أثخنه الضرب والذل وجراحاته!
الوطن يكره الكلام كثيراً!
نحن الذين بقينا في الوطن يا سيدي.. عرفنا وجههُ الآخر، وسمعنا حشرجة الموت التي تنشب في حلقه كلَّ ثانية، وتقلبنا في مستنقعات التفرقة، وطاردتنا صور وأصوات فقرائه الذين يزدادون يومياً إثر كلِّ لقمة، ورأيناه كثيراً في كوابيسنا كوحش مستبد يعشق تثبيط هممنا، وقتل طموحاتنا، والتشفي بجراحنا، وتجريب كلِّ سياط المآسي على ظهورنا.. كلها. نحن الذين بقينا في الوطن يا سيدي، تحملنا منه ركلاتٍ كثيرة جداً قبل أن نستجدي أحلام الهجرة.. يركلنا ثم يهمس في آذاننا كلَّ صباح: ارحلوا، وكلما حاولنا ولوج غرف النور فيه يصفق ضلفة الباب على أصابع حبنا الرهيفة التي ربيناها بدلال ليردد مرة أخرى: ارحلوا. ويضيف: فيَّ لم تُخلق غُرفٌ كهذه لأمثالكم!
نحن ياسيدي تعبنا من الخرس أكثر من أي شيء آخر ربما، والوطن يكره الكلام كثيراً، حتى إننا وكلما تحركت شفاهنا بغية النطق يزلزلنا صارخاً: "إنت بتعرف مع مين عم تحكي!" واليوم بتنا لا نميِّز نبرةَ أصواتنا لو سمعناها، لأننا لا نعرف كيف نتكلم ولا مع من نتكلم! الوطن يكره الكلام كثيراً!
جهنم الوطن لا يشبع
الوطن في قواميس المترفين حنين، وفي قواميس الأشقياء جهنم، والإنسان في جهنم يحترق كلَّ مرة وهو على أمل أن تكون المرة الأخيرة التي ينتشله بعدها الخلاص بالموت، لكن جهنم الوطن لا تشبع، تحييه لتستمتع بعذاباته من جديد، وهو.. معضلته أنه لا يكف عن الأمل، لو أنه كفَّ عنه لمات!
حين كنا أصغر، منذ أعوام كثيرة، لم تكن الغربة حلماً، وإنما تخلٍّ لا نقدره ولا نستسيغه، وربما نعتبره -بفيضٍ من الطفولة والوطنية- خيانة عوضاً عن كونه شقاء طبعاً، كنا نلعب في الساحات، ونركض من ساقية لأخرى، ونضحك ملء أفواهنا، وننشد أناشيدنا الوطنية، نرفع أصواتنا في الشطر الأخير منها، نرفعه جداً، ونمتلئ فخراً لا نعرف مصدره، ولكننا نحسه جيداً.
اليوم بعد أعوام كثيرة وموت وخيبة وامتحانات انتماء، لم نرسب بالامتحانات، لكن أكلتنا الخيبة، واستنزفنا الموت، وعرفنا أن الوطن يكون حيث تكون أنت نفسك، بأحلامك وقوتك وقدرتك على أن تكون كما تريد، لا كما يريد قهرك. عرفنا أن الوطن يربي أبناءه ليفخر بهم، لا لكي يأكلهم، الوطن حين يبدأ بأكل أبنائه يفقد الإحساس بالشبع، الوطن لا يجب أن يأكل أبناءه أصلاً!
حتى الأنبياء هاجروا
نحن الذين نقول في كلِّ مناسبة -أو بدون مناسبة حتى- إن أعظم أحلامنا هي "فيزا لبرات البلد" ونسخر ممن يكتبون فيه أشعار الوله والوجد والصبابة؛ سنكتب فيه ربما أكثر من ذلك بعد طيَّارةٍ وخطوة في الغربة، وسنبكي على مخداتنا ليلاً، سنخبئ كتابتنا لنا وحدنا، ونحرص ألا يشهد أحدٌ بكاءنا هذا فيشمت بنا، وسنُغرق بيوتنا الجديدة بصور القديمة، وسنحلم كلَّ صباحٍ بالعودة، نتحسس المفاتيح، ونسترجع الذكريات، ونُبقي أمتعتنا محزومة لأن الاستقرار يعني النسيان والتأقلم ونحن لن ننسى أبداً، وسنقارن الشوارع الجديدة العريضة بأزقة الوطن وحواريه فترتفع دقات قلوبنا مصوتةً للأزقة، لكننا أيضاً نحفظ الدروس التي لقننا إياها الوطن جيداً إثر ركلاته، ونعلم أن صوت العقل أقوى من صوت القلب، وأن الحنين هو حنين فقط، غير مصحوب بنيَّةِ قتلهِ باللقاء، إلا اللهم لقاءاتٌ عابرة تؤججه ولا تطفئه!
نحن الذين نقول في كل مناسبة -أو بدون مناسبة حتى- إن أعظم أحلامنا هي "فيزا لبرات البلد" لسنا أقل وطنية ممن يتغنى بشوقه للوطن بكل خرابه الأخير وقسوته، ولكننا وكما تقول أغنية أبناء جبل السوري الشعبية:
لا تعتبي يا مهذبة
ماني نبي وش حيلتي.
حتى الأنبياء يا سيدي حين ضاق بهم الوطن هاجروا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.