اختلاسات أدبية من ذاكرة صديقي.. هل تحولت الدنيا إلى غابة؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/12/10 الساعة 16:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/10 الساعة 16:33 بتوقيت غرينتش

الوحدة سوط يجلدني، والنهار يكتظ بوجوه تقرفني، والصمت يؤذيني، والكلام يجرحني، والمرض يعاقبني، والمسير كل يوم يضيف إلىِّ جناحين اُحلِّق بهما، وفي ذات الوقت أخاف أن يغدرني، والحياة عندي مجموع هذه المتضادات، وأحياناً المتناقضات وغيرها، لا أعرف منها أو عنها سوى شهادة الميلاد، والبقية لا تعنيني.

حكايات صديقي يبدو ألّا نهاية لها، وكذلك حكاياتنا بالطبع. يمر كل منا بتفاصيل صغيرة لا يعيرها اهتماماً، ليكتشف لاحقاً أنها حلقة مرتبطة بحلقات أخرى تكون عقداً لا يصلح للزينة بل لإحكام طوق مؤلم.

خرج صديقي من معمل الكمبيوتر متجهاً للمكتبة. كان ذلك في الصباح الباكر ليسمع صوتاً قام بتثبيته على "موبايله" يشير إلى الإشعارات. بسرعة فتح نقاله بخاصية بصمته، ليجد أن رسالتين أرسلتا من إيميله لرئيسه. الأولى كانت تقريراً حديثاً عن آخر أعماله قدمه للرئيس من أكثر من أسبوع، والتقرير (المرفق) لم يك النسخة الجيدة التي أرسلت، بل هي عبارة عن (درافت) غير منظم وغير مرتب من حيث حجم الخطوط وأنواعها والشكل العام للتقرير.

الرسالة الثانية كان مرفقاً بها وثيقة مكتوبة على برنامج الوورد. تلك الوثيقة وجهت للرئيس قبل نصف عام، وكانت عبارة عن تذمر من تصرفات زميل له بالمعمل تم ذكر بعضاً منها، وفي الرسالة أكد المرسل أنها لمجرد العلم بالشيء ولا يريد اتخاذ أي إجراء بالخصوص. كان صديقي احتمل لعامين زميله، إلى أن وصل لقناعة أن ما يفعله الزميل هو بمباركة بل تعليمات الرئيس، فأراد ألا تستمر "الحدوتة" إياها.

فتح صديقي الوثيقة وهو غير مصدق! لماذا يعاد إرسال هذه الايميلات! ومن هو الهاكر الذي دخل الإيميل، ويتحكم به وكيف؟ والأهم لماذا يرسل هذه الرسائل بالذات؟

قبل أيام تم إلغاء كل الرسائل في حساب شخصي آخر له على جوجل، وعمر الحساب وقتها يصل نحو سبع سنين. الحساب من ناحية المراسلات هو غير مستخدم رسمياً، اللهم مراسلات بين صديقي ومحاميه، تحوي بعض الوثائق.

بطريقة ما استطاع صديقي استرجاع كل حسابه ما عدا الأهم وهي المراسلات مع المحامي. يبدو أن ذاك الشخص ألغاها بداية وحذفها نهائياً، ثم ألغى بأمر واحد كل المراسلات التي احتواها الحساب، وهذا التفسير الوحيد لعدم استرجاع رسائل المحامي، أمر إلغاء كافة الرسائل قد يتم التعامل معه على أنه خطأ من المستخدم فيعيدونها، أما الرسائل المنتقاة لكي تلغى من صندوق البريد ثم تمسح كلية من قائمة الرسائل الملغاة فلا يتم استرجاعها من قبل فريق عمل جوجل. 

المشكلة ليست في البريد الملغى، بل إيجاد تفسير منطقي لما حدث وإجابة التساؤلات المطروحة. أمر مخيف أنْ يرافقك شبح، يستعمل بريدك الإلكتروني بنفس الصلاحيات التي تستخدمه بها، وفوقها لا يتبدل الحال بعمل إجراءات سرية أو تبديل كلمة السر.

كان رئيس صديقي ينكر أحياناً وصول بريد صديقي له، وهذا أمر غير معقول، فإن البريد يصل لحظتها أو قد يتأخر لأسباب تقنية، أما عدم وصوله فهذه مشكلة يتم الإخطار عنها فوراً، إن حصلت مشكلة في الإرسال من قبل الجهة المتسببة في ذلك. لذا إذا تم التأكيد على الارسال فاعتبر أن رسالتك وصلت، وإلا ستجد إشعاراً في صندوق بريدك يوضح الخلل وسببه.

لتوثيق المسألة راسَلَ صديقي فريق الدعم الفني وأخبره بالمشكلة تفصيلاً، مع نُسخٍ لمن يهمهم الأمر للتحذير من أي رسائل تأتيهم منه، حتى تُحلْ المشكلة، واحتفظ بنسخة آمنة في كتلة السحاب الخاصة به.  

كلّمه قسم الدعم الفني، ذهب إليهم وكان أحد العاملين فيه مرتبكاً، قابله آخر وأعطاه نصائح يعرفها ضمناً، منها ربط فتح الإيميل على التلفون أو حساب آخر آمن، لتأتي رسالة صوتية عادة ما تكون إجابتها ضغط رقم واحد على لوحة مفاتيح الموبايل، حينها يتم فتح الإيميل. 

لأيام تلتْ، وصديقي غير مستوعب ما حصل ولماذا؟!

قابل رئيسه وناقشه في موضوع يخص العمل، فأجابه رئيسه أن التقرير الذي قدمه لا يصلح، فهو ضعيف من حيث الشكل والمضمون، وهناك زميل له حديث عهد بالعمل قدم تقريباً شيئاً مماثلاً بدقة وجودة أفضل، وأجلس صديقي بجواره وتصفحا تقرير الزميل معاً. 

فعلاً كان تقريراً جذاباً معداً بشكل ممتاز، لكنه نفس مضمون تقريره، وإن تغيرت الأشكال والرسومات التوضيحية. اندهش صديقي لدرجة عدم التصديق، وتسربت منه شكوك، قاطعه الرئيس قائلاً: لا تقل لي إنه أخذه منك، فهو يسبق تقديمك لتقريرك بأسبوع، وفعلاً حسب الجهاز، التواريخ صحيحة، لكن صديقي أنكر أنه أرسل التقرير أولاً بهذا الشكل، وثانياً في هذا التاريخ، وأكد أن تاريخ إرساله يسبق التاريخ المرسل به تقرير زميله، وقال حين أعود لمكتبي سأجد التقرير الأصلي وستجد تاريخ الإرسال. استعرض الرئيس الرسائل المرسلة له من صديقي فلم يجد شيئاً في ذاك التاريخ.

عاد صديقي لمكتبه، وفحص صندوق الصادر من الرسائل، وفعلاً لم يجد شيئاً. كاد أن يشك في قواه العقلية، هل يعقل أنه نسي أن يرسل التقرير وتخيل فقط أنه أرسله، أو أنه استخدم إيميلاً آخر لإرساله، فبحث في ثلاثة يملكها ولم يجد شيئاً. سلم أنه نسي، وجلَّ من لا يسهو، ورضي ألا يُقبل تقريره كونه لم يعد متأكداً من شيء.

قرأ صديقي الإيميل الثاني، وإذ به يحمل كارثة في المرفق، قد تم الزج بذكاء باسم أحد معارف صديقي المقربين تلميحاً أقرب ما يكون تصريحاً، وكان واضحاً أنها حشو، الإضافة كانت قبل سرد قصة الزميل الآخر وجزء بعد إتمامها. طبعاً إذا تم الرد على رسالة إلكترونية أو تحويلها لطرف ثالث من السهل التلاعب فيها وإرفاق أي شيء له علاقة أم لا. صديقي رجل عاقل، فهو يعرف أن هناك قانوناً صارماً ولو كتب ذلك لأتبعه بإجراءات، إن كان لا يملك دليلاً عليها سيكون جزاؤه عظيماً.

كان هذا في نهايات نوفمبر/تشرين الثاني أو بدايات ديسمبر/كانون الأول، حسب ذاكرة صديقي "المشكلة". من حُشِرَ اسمه ترقى استثنائياً في العمل، وحينها كان صديقي بالصدفة في مكتب رئيسه، الذي كان منفعلاً بعض الشيء على غير عادته، وهو يتحدث إلى اثنين آخرين من مرؤوسيه، وذكر اسم ذلك الشاب منتقداً وساخراً من الطريقة التي ترقى بها. قال إنها "تفصيل" بالسنتيميتر، ولما رأى صديقي بمكتبه، ارتبك وتغير الموضوع.

حسب تحليل صديقي فإنهم أرادوا ضرب أكثر من عصفور بذات الحجر، أولها: الطعن في ترقية ذلك الشاب الطموح بشهادة "شاهد من أهلها"، للمقايضة ربما. الثاني زيادة تشويه صورة صديقي، خاصة أنها أول الأدلة الكتابية عليه، وكل ما سبق كان مجرد سرد يعتمد على شهادات لا يعول عليها أو مراسلات ربما ملفقة. والثالث ربما آن الأوان للتخلص من حليف لهم قدم لهم خدمات "قذرة"، وأصبح في نظرهم مثل الوباء أو الطاعون الذي يجب إبعاده والابتعاد عنه.

التقرير تم الاطلاع عليه من مدير الشبكة، الذي أعاد صياغته، وهو ماهر جداً في ذلك. في يوم أو اثنين كان تقريراً جذاباً قد أعد، بالمقابل ألغي تقرير صديقي الذي كان في إيميل الرئيس كلية، وربما هناك أحد أعضاء فريق الدعم الفني له علاقة بهم وبالموضوع إجمالاً. بعدها بأيام أعاد إرسال التقرير بمرفق قديم وجده بحساب صديقي، وحذف ما سبق إرساله حذف لا فصال فيه من تبويب "الصادر" في حسابه!

الآن أضحت الصورة بها وضوح جيد ليُرَى ما رُسِم، وقع صديقي في حيرة، هل يروي القصة لمن يعرفه، أم لا. فضل ألا يتجشم مشقة روايتها وهو متيقن ألا أحد سيصدقه. الغريب أنه توافقت الأحداث مع وليمة لمن يعرفه صديقي، فقرر أن غيابه ليس جيداً، خاصة أنه قد جاءته دعوة خاصة من المُولِم. ذهب وحضر وكأن شيئاً لم يكن ولاحظ نظرات استغراب قرأها في بعض العيون أو لعل قراءته خاطئة، لكن الداعي احتفى به كثيراً. 

رجع لبيته وعرج على صندوق البريد ليجد رسائل إحداها كان مطبوعاً على غلافها العنوان والاسم، لكن لا يوجد عنوان للمرسل، ويبدو أنها وضعت باليد. كانت تلك الرسالة هي نفس المرفق الذي أرسل من حساب صديقي من أيام. 

سأل صديقي لم لا يتم تعيين مدير للشبكة الداخلية خلفاً للسابق الذي انتقل من عام لعمل آخر، أخبره زميل له أنه تم تعيين شخص آخر منذ انتقال الأول، وبالصدفة المحضة كان هو نفس المستخدم الجديد الذي قدم تقرير عمل مشابهاً لتقريري. 

حين تكون مديراً لشبكة داخلية يمكنك الدخول لكل الحسابات الفرعية، إلا الإيميل، لكن أحدهم قد ينسى إيميله مفتوحاً وهو غير متخوف كونه قد خرج من حسابه وكي تدخل للحساب ثانية تحتاج لكلمة سر فيما عدا مدير الشبكة. هناك تشغيل الكمبيوتر عن بعد، وهو يبدو الأسلوب الذي اتبعه زميل صديقي ذلك الصباح المبكر!

سياط الدنيا لا ترحم 

الإنسان كائن اجتماعي لا يمكن له العيش معزولاً، رغم أن جلدات الوحدة قد تكون أقل حدة من سياط الناس. التجاهل حل به كثير من الكبرياء، وصعب جداً، وحين تكثر العصي التي تتكسر على ظهر أحدنا قد تفقده الوعي ويسقط، لكن إن لم يك مميتاً يزيده مناعة وقوة احتمال.

الناس تؤذي بعضها، تقطع جلودها بأنصالٍ حادة، كتلك التي أُمرِنا أن نُذهب بها أنفاس الذبيحة كي لا تتألم، والهدف ليس إحسان الذبح أو تجنيب المذبوح الألم، بل التأكد من قطع أنفاسه، أما الموت فهو قدرها الذي تركض نحوه لكنهم لا يشعرون! ومن عاد منا يألم؟! لربما بعضنا!

يقال إنه في آخر الزمن يتغير كل شيء معتاد، ينقلب المألوف ليصبح ليس  بمألوف، غريباً، وترى الناس سُكارى وهم فعلاً سُكارى، ولا تعجب من فعل السُّكرِ بل مِن شُربِ ما يُسكِر، في مجتمع يعبد الله أمام بعضه البعض "في العلن"، ويتناسى أن الخمر مُحرم وأن الله يُعبدُ في السر أكثر منه في العلن!

تنويه

كل أحداث ما قرأت هو خيال، في الماضي، يشبه الواقع بكل تجاعيده المزمنة. من لأ يؤمن بنظرية المؤامرة، إما أنه هو صاحب المؤامرة نفسها، أو المُتآمر عليه، يتم إقناعه أن من يؤمن بـ(دَرْوَشات) كهذه ساذج عبيط. من يظن أن هذا لا يحدث هو من بقايا القرون المظلمة، لم يعش عصر المعرفة بما تحويه، من كمبيوتر ومعلومات وإنترنت وعالم افتراضي يعيش جنباً لجنب والعالم الحقيقي، وجب إعادة ضبط دماغه وفق آخر الإصدارات.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد يوسف علي
أكاديمي وباحث
أكاديمي وباحث
تحميل المزيد