ربما سبق لك أن قرأت عدداً لا بأس به من الكتب والموضوعات عن تغيير الذات وتطويرها، أو استمعت إلى لقاءات ومحاضرات تحاول إلهامك لتطوير ذاتك.. ودون شك فقد حمل لك بعضها بين طياته الفائدة، وكان بعضها الآخر كالعدم، مثله كمثل الوجبات السريعة، تشعرك بالشبع دون أن تفيد.
لقد أصبحت ثقافة الغذاء السريع، والعلاج السريع، وأنصاف الحلول والمسكنات؛ منتشرة في كل مكان، ومتغلغلة في كل مجال، في ظل ثقافة عصر السرعة والتنافس على الموارد. وصار الحديث عن التغيير مجرد تقليعة أخرى من تقاليع الموضة في السنوات الأخيرة، وغدت دورات التنمية البشرية وسيلة للتفاخر بين الأقران وإبهار الرؤساء في العمل.. وتحول الأمر برمته إلى مجرد عملية تجارية، لا تختلف كثيراً عن أخواتها من العمليات التعليمية في بلاد العالم الثالث.. فالمهم هو المصطلح البراق لتطوير الذات أو التنمية البشرية، بغض النظر عن حقيقة وجودة المحتوى. بل ووصل الأمر إلى أننا أصبحنا مؤخراً نرى بعض محاضرات التنمية البشرية الجماعية التي لا توجد عبارة مؤدبة في القاموس يمكن أن تصفها سوى أنها حقيقة لا مجازاً ليست سوى حفلات زارٍ لعفاريت التنمية البشرية!
للأسف الشديد غدت مصطلحات تطوير الذات أو التنمية البشرية مرادفةً في أذهان الكثيرين لكتب ساذجة سطحية أو دورات تدريبية سريعة وخفيفة. كتبٌ توهمك أن عملية التغيير كبسولة تتناولها، أو إبرة تُحقن بها.. ودوراتٌ يضخ من خلالها المدربون الكثير من المشاعر الإيجابية والطاقة في عروقك ويمنحونك الآمال الهائلة التي لا تُصدق في قدرتك على فعل المستحيل.. فوفقاً لهم، فإن كل واحدٍ منا هو شخص خاص وفريد وله مستقبل عظيم استثنائي!!
أما الحقيقة فهي أن لسان حالهم يقول: أنا أريدك أن تُدمن لحظات السعادة التي تشعر بها عندما أعطيك هذه الجرعة الكبيرة من الأمل والأحلام الكبيرة، كي تعود لاحقاً وتطلب مني المزيد والمزيد لأنني أريد أن أكسب أكثر وأكثر. إنها باختصار جريمة تُرتكب في حق الفكر والعقل البشري، تحت ستار التجارة وربح الأموال.
فقد أُفرغ مفهوم تطوير الذات من محتواه الحقيقي حين جُعل مرادفاً في الأذهان لتعلم بعض المهارات السلوكية الشكلية، أو ما يسُمى بالمهارات الناعمة (Soft Skills)؛ أو حتى تعلم مهارات البرمجة اللغوية العصبية.. فكلاهما على ما فيه من بعض فائدة، ليس إلا جزءاً صغيراً من القصة. ناهيك عن أن البرمجة اللغوية العصبية بشكلها الشائع اليوم حتى وإن كان بعضها قائماً على مبادئ علمية عن التحكم بالعمليات العصبية والفكرية في دماغ الإنسان، فإنها رغم ذلك تستمد كثيراً من أفكارها من فلسفات وجودية تقوم على فكرة وحدة الوجود، وتتناقض مع فكرة الإيمان بالله الواحد الخالق لهذا الكون، والمتمايز عنه.!
ثم ابتُذل المفهوم أكثر حين حُوِّل إلى تجارة رخيصة، يتكسب منها المدربون بلا ضوابط أخلاقية، ويحولها المتدربون إلى وسائل لكسب المال بدورهم، ضمن تيار العولمة والرأسمالية والمادية الذي يجتاح العالم بلا رحمة، ضاربة موجاته كل مقومات الأخلاق والضمير لدى الإنسان، في أكبر وأبشع تسونامي عرفه التاريخ.
إنها لكبيرة من كبائر الذنوب حين يكون الهدف من العلم أو التعليم مجرد التحول إلى آلة، تستغل المهارات من أجل المنفعة الفردية الأنانية.. سواء بشكلها الصريح المجرد؛ أو حتى في شكلها المزين اللمّاع، حيث العمل والتفاعل داخل مؤسسات ينبع الإيمان فيها من محراب عبادة الأرباح بأقصى قدر، وقداسة بريق النجومية، وسيادة شريعة الغاب، على حساب كل أنواع المبادئ والأخلاق. ودون تورع عن استغلال كل تلك المهارات في إقناع الناس بما لا يُفترض، وخداعهم بشتى السبل، صريحها وضمنيها.. وكل ذلك في النهاية صلاة وتسبيحاً بحمد ما تحتويه الجيوب، والأرصدة في البنوك؛ حتى صرنا في النهاية أمام جريمة مكتملة الأركان للاتجار بالعقول والأفكار.
تنبع جذور هذا المنظور الخاطئ في الواقع من مشكلة أعمق في الثقافة الحديثة نفسها والتي أدى انفجار وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي إلى تسهيل انتشارها في جميع أنحاء العالم مثل السرطان حتى أصبحت العقلية المقدسة على مدى العقود القليلة الماضية. هذه الثقافة الحديثة القائمة على المادية، وتعظيم الفوائد والملذات للأفراد، وزيادة الاستهلاك؛ والمدعومة بمبررات وشعارات غامضة ومضللة مثل: عصر السرعة، والمنافسة وقلة الموارد، والحرية الشخصية، والعظمة الشخصية، والنجومية، والعولمة … إلخ.
لكن الأخطر هو أن منع الناس من تحقيق التنمية الشخصية الحقيقية هي لعبة يلعبها المتنفذون وأصحاب السلطة منذ قديم الزمان. واليوم أينما ذهبت، تجد هناك تلك الحيتان التي تمتلك السلطة، وتدير الأسواق، وتسيطر على الاقتصاد، وتقود الإعلام، وتؤثر على السياسة. وأرواح تلك الحيتان مشبعةٌ تماماً بهذه الثقافة الحديثة، إذ تخدم مصالحهم تماماً، وهي تبذل قصارى جهدها لنشرها من أجل تعظيم أرباحها في المقام الأول.
يشجع هؤلاء هذا المنظور الخاطئ لتطوير الذات بشكل مباشر وغير مباشر لأنه يمثل بالنسبة لهم فرصة جيدة لموظفيهم لتعلم المهارات الفعالة اللازمة للخدمة في الكيانات التجارية التي يديرونها. كما أنه يشكل تكاملاً كبيراً مع المنظومة التعليمية المُضلِلة التي تعبدها الثقافة الحديثة، والتي تم تصميمها لخدمة ما يحتاجه السوق وأربابه في المقام الأول، وليس لخدمة العلم كما أُريد لنا أن نُصدق.
إن هذه المنظومة وبمساعدة كبيرة من وسائل الإعلام وتُجار التنمية البشرية تشكل جميعها معاً عقلية الفرد ليكون جاهزاً لاحتضان الدور الذي تأمل الحيتان أن يلعبه، وللأسف، يلعب معظمنا هذا الدور دون اعتراض!
فعندما تلعب هذا الدور، فهذا يعني أن عقلك قد تم تشكيله للعمل وفقاً لنموذج الاستهلاك، وأنك مقيد بأحلامك في أن تكون قادراً على الحصول على المزيد والمزيد من الرفاهيات. وتصبح جاهزاً لأن تكون مجرد قطعة أخرى قابلة للاستبدال داخل تلك المنظومة الفاسدة. والمفارقة هنا هي أننا نتحول إلى وحدات قابلة للاستبدال تحت شعار أننا مُتميزون وفريدون! إذ أن جزءاً من تلك اللعبة كلها هو تضخيم الميول النرجسية لدى الأفراد والتي كلما زادت كلما قل إدراكهم ووعيهم.. في علاقة عكسية ثابتة على مر الزمان.. وبذا يصبح إقناعهم بمختلف الرسائل التي تبثها وسائل الإعلام أكثر سهولة، ويصبح بناء ثقافة القطيع ممكناً.. فأسهل وسيلة لإقناع أحدهم بفكرة ما هو العزف على وتر غروره الشخصي.. وحينها يمكنك أن تعزف أي مقطوعة تشاء.. اقتصادية أو تجارية أو سياسية أو ثقافية أو قومية أو دينية أو ..إلخ.
إن تلك الحيتان لا تكره شيئاً أكثر من رؤيتنا نحقق تطورنا الشخصي الحقيقي، ولديهم أسبابهم الخاصة لذلك. فإلى جانب ما سبق، فإنهم أكثر من سعداء بذلك المستهلك المثالي الغبي الذي يدفع لهم إلى ما لا نهاية، مع ابتسامة على وجهه، وهو يعتقد أنه حصل على صفقة رائعة. ومن الواضح أن مثل هذا المستهلك المثالي لن يتم العثور عليه حين يزداد وعي الناس وإدراكهم وبُعد نظرهم، وهو الأمر الذي يعتبر (للأسف الشديد) أحد الآثار الجانبية لتطوير الذات الحقيقي. ولذا، فسواء اعتنقنا هذا المنظور الخاطئ، أو أصبنا بخيبة أمل وتخلينا عن فكرة تطوير الذات بأكملها، فهم على ما يرام في كلتا الحالتين، طالما أننا لن نواصل التطوير الحقيقي الصادق لذواتنا.
إن تطوير الذات ليس علماً يهدف لأن نحول الإنسان إلى قطعة متكيفة مع حضارة القرن الحادي والعشرين، بكل فسادها وانعدام للآدمية فيها.. بل هو علم يبحث في كيفية تحقيق التنمية الإنسانية بمعناها الحقيقي، ويشرحها من حيث كونها تنمية للإنسان الفرد، بإحداث التحولات الداخلية العميقة التي تسمو به روحياً وفكرياً، جنباً إلى جنب مع تعلم واستغلال المهارات السلوكية؛ وكل ذلك بغية تحقيق التنمية والازدهار الإنساني الحقيقي الخلاق بكل صوره؛ الفردي منها والجماعي على السواء، وأن يرسخ بداخل كل منا القناعة بأنه كائن حي، يعرف أنه ليس مجرد آلة تمت برمجتها مسبقاً، لتكون جزءاً من منظومة مجنونة تخدم مصالح قلة من الناس، وتنتهك آدمية كل ما عداها.
إنه علم يُنبت لنا الإنسان القادر على المشاركة في تغيير هذا العالم الغارق في المادية، ليكون مكاناً أفضل يحيا فيه الإنسان كإنسان.. كائنٌ آدميٌ سعيد، يعرف أين بدأ هذه الحياة وأين هي النهاية فعلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.