عند تغطية جرائم حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة، لا بد من تسليط الضوء على قضية أساسية، وهي استهداف سكان قطاع غزة في شربة الماء، من خلال عملية تدمير مختلف المرافق الحيوية وتقليص مصادر المياه، بينما تزداد الحاجة إليها بشكل كبير مع ارتفاع درجات الحرارة وصولًا لتعطيش أهالي القطاع، وإلحاق أضرار جسيمة بالمدنيين في القطاع، وإخضاعهم لأحوال معيشية سيئة يُقصد بها تدميرهم والقضاء عليهم.
تزداد أزمة المياه في قطاع غزة عمقًا يوماً بعد يوم في ظل استمرار العدوان وحرب الإبادة منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر / تشرين الأول الماضي، ويواجه أكثر من 2 مليون فلسطيني في القطاع أزمة عطش نظراً لعدم توفر مياه الشرب جراء قرار اتخذه الاحتلال بداية العدوان بقطع إمدادات الكهرباء والمياه والوقود.
في 9 من أكتوبر / تشرين الأول الماضي، أعلن وزير دفاع الاحتلال غالانت، عن فرض حصار شامل على قطاع غزة، قائلاً: لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود سيصل إلى القطاع، وفق ما نقلته القناة 13 العبرية.
منذ ذلك الوقت توقفت جميع محطات تحلية مياه الشرب عن العمل بشكل كامل في القطاع، نتيجة انقطاع الكهرباء ونفاد كميات الوقود، وصارعت عدد من المحطات للبقاء قيد الخدمة حتى الأسابيع الأولى من العدوان، عبر تقليص ساعات العمل وتقنين البيع لأعداد أقل من السكان، لكن انقطاع إمدادات الوقود أدى في نهاية المطاف إلى خروجها عن الخدمة.
في هذا الشأن قال المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان إن استهداف الاحتلال المتواصل والمنهجي والواسع النطاق لمصادر المياه ومحطات التحلية في قطاع غزة، يظهر أنها تتخذ من التعطيش سلاحاً آخراً ضد المدنيين الفلسطينيين تَتَعَمَّدُ من خلاله تقليص مصادر المياه المتاحة لهم، وبخاصة الصالحة للشرب، وفرض المجاعة والتسبب عمدًا في إهلاك أكثر من 2 مليون نسمة في إطار جريمة الإبادة الجماعية الحاصلة منذ شهر أكتوبر / تشرين أول الماضي.
ووثق الفريق الميداني للأورومتوسطي أضرارًا شديدة أصابت محطة لتحلية المياه في حي الزيتون جنوب مدينة غزة يوم الاثنين الأول من تموز / يوليو الحالي، بفعل استهداف مباشر للمحطة من قبل الاحتلال، والذي أدى كذلك إلى مقتل شاب كان يملأ جالونه من الماء وإصابة آخرين بجروح، وكان جيش الاحتلال قد قصف المحطة بصاروخ (GBU) اخترق عدة طوابق وانفجر في الطابق الأرضي، مما أدى إلى أضرار جسيمة في المحطة التي كانت تخدم ما لا يقل عن 50 ألف نسمة في عدة أحياء سكنية متجاورة.
أبرز الأورومتوسطي أن سكان قطاع غزة في الوقت الذي ترتفع فيه درجات حرارة الصيف فَهُمْ يكابدون بشدة من أجل الحصول على المياه، حيث تشير التقديرات إلى أن حصة الفرد في قطاع غزة من المياه قد تراجعت بنسبة 97% منذ أكتوبر الماضي، وسط الدمار الواسع الذي لحق ببنية المياه التحتية، وانخفاض حصة الفرد الواحد من المياه في القطاع إلى ما بين 3-15 لترًا يوميًا في ظل الحرب مقابل معدل استهلاك بنحو 84.6 لترًا للفرد يوميًا خلال العام 2022.
تشهد جميع مناطق قطاع غزة شحًّا في المياه، وانهيارًا لنظام الصرف الصحي، في ظل استمرار جرائم حرمان السكان من المواد التي لا غنى للإنسان عنها للبقاء، التي تتضح كذلك من خلال تدمير أكثر من 700 بئر ومحطة تحلية مياه منذ بداية الحرب، في حين تعاني البقية من شح الوقود الذي يمنع الاحتلال إدخاله إلى القطاع، بالرغم من ارتفاع عدد الضحايا، بينهم أطفال بفعل انتشار الأوبئة والأمراض المعدية بعد تراكم المياه الملوثة نتيجة استهداف محطات الصرف الصحي.
أكد الأورومتوسطي أن قوات الاحتلال بمواصلتها الدمار والخراب تخلق بيئة غير صالحة للحياة في قطاع غزة، وبخاصة عبر تدمير 50 في المائة (350 كم من أصل 700 كم) من شبكات المياه، و9 خزانات مياه من أصل 10.
كما أدت الجرائم وسياسات الاحتلال التعسفية إلى تعطيل جميع محطات وأنظمة معالجة المياه العادمة (6 محطات)، وتوقف حوالي 65 مضخة للصرف الصحي، وتدمير 70 كم من شبكات الصرف الصحي، ما يدفع للتخلص من مياه الصرف الصحي التي تُقدّر بحوالي 130 ألف متر مكعب يوميًا، دون معالجة لتسرب أجزاء منها إلى الطرقات ومراكز إيواء النازحين في جميع مناطق قطاع غزة.
وبحسب الأمم المتحدة فإن نحو 96 في المائة من سكان غزة (2.1 مليون شخص) يواجهون مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، كما أظهرت نتائج التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي الذي أظهر أن أكثر من 495 ألف شخص (22 في المائة من السكان) على الأقل يصنفون ضمن المرحلة الخامسة (المجاعة الحادة)، التي تواجه فيها الأسر نقصا شديدا للغذاء والتضور جوعا واستنفاد القدرة على المواجهة.
ومطلع العام الجاري أبرز الأورومتوسطي أن مناطق مدينة غزة وشمال القطاع تواجه مأساة مروعة ناتجة عن الشح الكارثي في مصادر المياه الصالحة للشرب، ومنع وصولها، وأن العطش يغزو مناطق مدينة غزة وشمالها بشكل صادم بسبب قطع إمدادات المياه ونقص الوقود اللازم لتشغيل محطات تحويل وتوزيع المياه.
وعليه يجدد الأورومتوسطي تحذيراته من أن نقص مياه الشرب في قطاع غزة بات مسألة حياة أو موت، في وقت يجبر السكان على استخدام مياه ملوثة أو غير نظيفة من الآبار وتتواصل الهجمات العسكرية ومنع إمدادات الغذاء والماء والوقود وغيرها من الاحتياجات الإنسانية الأساسية.
ونبه إلى أن الإفراط في تناول الماء المالح غير الصالح للشرب، إلى جانب تسببه بأمراض المعدة والنزلات المعوية والقيء والإسهال المستمرين، يسبب إلى زيادة ضغط الدم وأمراض الكلى واحتمال الإصابة بالسكتة الدماغية، ما يؤدي في النهاية إلى الجفاف المفرط لأنسجة الجسم، خاصة المخ.
وفي كانون أول / ديسمبر الماضي، أجرى المرصد الأورومتوسطي دراسة تحليلية شملت عينة مكونة من 1200 شخص في غزة للوقوف على آثار الأزمة الإنسانية التي يعانيها سكان القطاع، أظهرت أن 66% من عينة الدراسة يعانون أو عانوا من حالات الأمراض المعوية والإسهال بسبب عدم توفر مياه صالحة للشرب.
ورصدت الدراسة أن معدل الحصول على المياه، بما في ذلك مياه الشرب ومياه الاستحمام والتنظيف، يبلغ 1.5 لتر للشخص الواحد يوميًا في قطاع غزة، أي أقل بمقدار 15 لترًا من متطلبات المياه الأساسية لمستوى البقاء على قيد الحياة وفقًا لمعايير (اسفير) الدولية.
وأعاد المرصد الأورومتوسطي التذكير بأن القانون الإنساني الدولي يحظر مهاجمة أو تدمير أو تعطيل الأعيان والمنشآت التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، بما يشمل مرافق مياه الشرب وشبكاتها، كما ويحظر وبشكل صارم استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب أو الإجبار على النزوح، واعتبارها انتهاكًا جسيمًا وعقابًا جماعيًا محظورًا، ويشكل كذلك مخالفة للالتزامات المترتبة على عاتق الاحتلال، بصفتها السلطة القائمة بالاحتلال للأرض الفلسطينية، بما يشمل قطاع غزة، وخرقًا لواجباتها وفقًا للقانون الإنساني الدولي بتوفير احتياجات سكان غزة وحمايتهم.
وينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أن تجويع المدنيين عمداً من خلال حرمانهم من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الإغاثية، يعتبر جريمة حرب.
ويذكر المرصد أن الحرمان الشديد والمتواصل للسكان المدنيين في قطاع غزة من المياه الصالحة للشرب وبالكميات الكافية، يعتبر شكلاً من أشكال جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضدهم منذ السابع من أكتوبر / تشرين أول من العام الماضي، كونه يلحق أضرارًا جسيمة بالسكان المدنيين الفلسطينيين في القطاع، ويخضعهم لأحوال معيشية يُقصد بها تدميرهم الفعلي، ومن شأنه أن يتسبب بموت مجموعة منهم، وذلك وفقًا لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والأحكام القضائية الدولية ذات الصلة.
كل هذه البيانات والأدلة تُثبت أن الاحتلال يستخدم التعطيش سلاحًا فتّاكًا في حرب الإبادة على غزة.
وبناءً عليه.. يجب على المجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الإنسان، والأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة تحمل مسؤولياتها وواجباتها، وإلزام قوات الاحتلال بضرورة وقف العدوان وحرب الإبادة بشكل فوري، وضرورة تزويد قطاع غزة بالمياه الصالحة للشرب، وتزويد القطاع بكميات أكبر من التيار الكهربائي لضمان استمرار عمل مضخات المياه والصرف الصحي والمشاريع ذات العلاقة، وضمان إدخال المعدات وقطع الغيار الخاصة بمشاريع تنمية المياه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.