المطبخ العربي تحت الاستعمار.. كيف يمكن أن نفقد ثقافتنا بين الأطباق والمعالق؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/03/18 الساعة 11:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/03/18 الساعة 12:03 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية - shutterstock

اجتاحت الحداثة تفاصيل حياة الأفراد والمجتمعات لشعوب العالم أجمع، مهيمنةً بواسطة أدواتها على العقول والقلوب والقوالب، مسيطرة على أفكارنا و مشاعرنا وسلوكياتنا، فارضةً نمط حياة يوحّد شكل الملابس، والغذاء، والعمران، والعلوم، والعمل. تعمل هذه الحداثة الاستعمارية، من خلال قنواتها المتعددة، على طمس الخصائص المميزة لكل شعب، مستهدفةً بذلك عاداته وتقاليده وديانته، حتى يتحول كل ذلك إلى مجرد رمز للتخلف والرجعية، أو إلى احتفالية سنوية لا تعدو كونها كرنفالاً. وفي المقابل، تنتج شخصية نمطية يُتوقع من الجميع تقمصها أو الرغبة في ذلك، مما يؤدي إلى خلق إنسان حداثي استهلاكي يجري خلف المؤسسات والشركات الكبرى والدول الراعية لها، بحيث يصبح أكثر مرونة وأسهل في التحكم من قِبل القوى الإمبريالية والرأسمالية.

مع بدء الحرب على غزة التي طحنت فيها القوى الإمبريالية أجساد أطفال غزة بالاسلحة الحديثة التي تفتخر بها، استيقظ جزء كبير من الشباب العربي على واقع أكثر مرارةً يحول بينه وبين حقه في الوجود والتعبير والمقاومة. لتسترجع الذاكرة العربية الشعبية بمرارة شريط حياة كاملة عاشها الشباب العربي تحت بوتقة هذه المنظومة الدولية التي لطالما ادَّعت وتغنَّت بشعارات العالم "قرية واحدة" و"الإنسان واحد شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً". فكانت المقاطعة لأهم وأشهر الشركات الداعمة للاحتلال أول ردة فعل للتعبير عن الغضب الشعبي تجاه الحرب، بالأخص بعد انتشار التصريحات المزيفة عبر الإعلام الغربي. ورغم أهمية المقاطعة المادية، إلا أنها لا تقل أهمية عن المقاطعة المعنوية والثقافية لكل أشكال الحداثة الاستعمارية المتغلغلة في مجتمعنا العربي، وضرورة مواجهتها من خلال التمسك والعودة للأصول الثقافة والحضارة التي تعبر عن تاريخ وهوية الأمة العربية والإسلامية.

الطعام مرآة الشعوب

يُعد المطبخ في حضارات الإنسان مرآة تعكس الحالة الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها، بالإضافة إلى كونه انعكاساً لطبيعة مزاجه وثقافته. فالميل نحو الحياة البدائية والبساطة ينعكس على الذوق العام للأفراد، بينما في المقابل، يؤدي الغنى والترف إلى تنوع أطباق موائدهم. على سبيل المثال، نجد مخطوطات إسلامية كاملة مكرسة للطعام وتفاصيله المستحبة وفقاً لعادات الشعوب في تلك الأزمنة، خاصةً الأطعمة التي كانت تُقدم على موائد السلاطين. تهتم هذه المخطوطات بتدوين أنواع الأطعمة ووصفاتها، بالإضافة إلى شرح الفروق بين أواني الطبخ المتنوعة التي تتناسب مع كل طبق وفقاً لطبيعته ومكوناته. على سبيل المثال، تُستخدم أواني الفخار للطهي، بينما الأواني النحاسية تُفضل لتقديم الأطعمة الباردة لتجنب التفاعل مع المواد الحارة، ويُشترط في تقديم الطعام على موائد السلاطين استخدام أوانٍ مزخرفة تليق بزخرفة ومكونات الطبق المقدم.

وإذا ما اطلعنا على نظام الحسبة (نظاماً رقابياً يتكامل مع النظام الاجتماعي والسياسي في المجتمع الإسلامي) نرى العناية الكبيرة التي خصصها لمراقبة كل ما يختص بالطعام وأسواقه وحوانيته، حيث يقوم بوضع قوانين كاملة مفصلة تضمن جودة ونظافة المواد الغذائية التي تباع في الأسواق بما فيها الحوانيت التي تقدم الطعام المطبوخ؛ إذ نجد في إحدى المخطوطات التي دوّن فيها نظام الحسبة في الدولة العباسية ذُكر على سبيل المثال تفاصيل رغيف الخبز المباع بدءاً من شكله الى الحبوب التي تغطيه ووزنه المثالي، وهو ما يعكس الاهتمام الكبير بأدق التفاصيل والرخاء الاقتصادي والاجتماعي اللذين يمنحان هذه البحبوحة.

تغيرت طبيعة الطعام عند الإنسان العربي تدريجياً من الماضي إلى الحاضر، وذلك رغم الأزمات الاقتصادية الشديدة والحروب التي شهدها العالم العربي في السنوات الأخيرة، إذ يُلاحظ التغيير المتسارع في نمط الطعام ليتوافق مع متطلبات الحداثة التي تفضل الشكل على الجوهر، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفته بشكل ملحوظ. وهنا يُطرح السؤال: هل تتناسب تكلفة إعداد هذه الأطباق مع الوضع الاقتصادي العام للمواطن العربي عبر مختلف الدول العربية؟ أم أن حق الفرد في الحصول على طعام يتناسب مع قدراته المالية أصبح مهدوراً، بحيث يصير الطعام -كما الثروة- حكراً على الأغنياء فحسب؟

أما اجتماعياً، فيلفت الانتباه الإصرار على تغريب أطباقنا بشكل ملحوظ. على سبيل المثال، يحمل تحول أطباق كانت تتميز بطابعها التشاركي، الذي يجمع العائلة والضيوف، إلى أطباق فردانية باردة ومحدودة الكميات، بتكلفة مرتفعة، دلالات عميقة. هذا التحول يفتقر إلى روح حضارتنا وثقافتنا، وهو ما قد يشير إلى تغيير في القيم الاجتماعية والثقافية الأساسية.

المطبخ العربي والحضارة الإسلامية

تأثر المطبخ العربي بشكل كبير بعد الفتوحات الإسلامية نتيجة لتفاعله مع الحضارات الفارسية، والرومانية، واليونانية، مما أدى إلى تنوعه الغني. فترة الخلافة العباسية، بالأخص، تعتبر من الفترات الهامة والأكثر تقدماً في تطوير وسائل الطهي ودمج الأطعمة، بالإضافة إلى الإبداع في ابتكار الأطباق. خلال هذه الفترة، تم وضع أسس وقوانين لمراقبة جودة وصحة الطعام المطبوخ، مع التركيز على فائدته لصحة الإنسان.

ويمنحنا كتاب "الطبيخ" لابن سيار الورّاق لمحة عن عراقة وحضارة الموائد والأطباق العربية، فقد ورد فيه شرحٌ وافٍ وكامل لأصول الطبخ والموائد وما فيها من صحة للبدن وإصلاح للأغذية، ووصفاً للذوق العام السائد آنذاك. الكتاب بمثابة موسوعة في فن الطهي، فضلاً عن تخلل صفحاته الكثير من جمال البيان متكئاً بارتياح على بداعة الأدب والشعر العربي في وصف الاهتمام بالطعام في حياتهم، فعلى سبيل المثال يحتفي ابن سيار بمفهوم الكرم على وسخاء الموائد العربية قائلاً: "يجود بالنفس إذ ظن الجواد بها، والجود بالنفس أقصى غاية الجود"، معبراً عن قيمة السخاء والكرم العربي الأصيل في ضيافة الطعام.

أما في مجال النظافة فقد تميزت هذه الفترة باهتمام كبير ودقيق في مراقبة الجودة والنظافة في أسواق المسلمين من خلال جهاز الحسبة. 

من المبهر كون إحدى أبرز تقنيات الطهي الحديثة، وهي الطهي البطيء، مذكورة في واحد من أعظم كتب الطهي التي تعود إلى ما قبل القرن الثالث عشر الميلادي. في كتاب "الطبيخ" لمحمد بن حسن البغدادي، حيث تُعرض طريقة تحضير "السكباج"، وهي وصفة تشبه إلى حد بعيد الطبق الفرنسي الشهير "البيف بورغينيون". يُطهى السكباج، المكوّن من اللحم، على نار خفيفة لعدة ساعات مع الماء والقرفة والتوابل والكراث والبصل الأبيض والجزر، حتى يكثف مرقه. بعد ذلك، يُضاف خل النبيذ والدبس، بطريقة مماثلة لطهي "البيف بورغينيون"، الذي يُستخدم فيه النبيذ الأحمر بدلاً من الخل والدبس. 

بينما اليوم، يواجه المطبخ العربي، الذي يتمتع بإرث فريد وغني، خطراً متنامياً يتمثل في الاستعمار الثقافي المرتبط بالحداثة، الذي أعتقد أنه بعد مرور عشر سنوات من الآن، سنشهد الآثار السلبية الكارثية لهذا التحول، التي ستتجلى في التغيرات الجذرية التي ستطرأ على مظهر ومذاق وجوهر إرث مطبخنا وهويتنا الغذائية.

توب شيف العالم العربي "المُغرَّب" 

فعلى سبيل المثال، لفت انتباهي خلال الموسم السابع من برنامج "توب شيف العالم العربي" والذي انطلق منذ فترة أثناء الحرب على غزة، كان المتسابقون يسعون جاهدين لإبهار لجنة الحكم بتغريب أطباقنا العربية الأصيلة. فأصبح المسخن، وجبة الفلاح الفلسطيني التقليدية، يُقدم كطبق فردي يتألف من قطعة سمبوسك جافة مع ملعقة من اللبن المقولب، والكبة اللبنانية التقليدية، خاصة في مطبخ بلاد الشام، تتحول إلى كرة واحدة كبيرة محشوة باللبن. أما الفلافل، فيُقدم في ثوب جديد مع تنوع لافت من الألوان والصلصات، التي أعيد تشكيلها باستخدام التقنيات الحديثة.

المطبخ العربي تحت الاستعمار
الكبة اللبنية | shutterstock

إن مساعي تغريب الأطباق التقليدية بتقنيات الطهي المعاصرة، لم تقتصر على برامج مثل "توب شيف"، ولكن جرت في تيار الحداثة الجارف الذي اجتاح العالم في السنوات الأخيرة، حين تم إطلاق أول برنامج عربي نحت عنوان "المطبخ المعاصر" على إحدى قنوات الطهي العربية، فانتشرت هذه التقنيات مستعرضاً فيها الشيف إمكانياته على أنها إبداعات تحوّل الأطباق الأصيلة -التي كانت تحمل في مكوناتها العديد من الرموز التي تزخر باللحظات العائلية الدافئة وذكريات الجدات- إلى صحون مغربة ومجردة من بعدها الثقافي، لتصبح سلعة فقط ملائمة للثقافة الاستهلاكية السائدة فقط.

خاتمة

الحرب على قطاع غزة نقطة فارقة في تبلور وعينا، مما جعلني، بصفتي طاهية، أعيد التفكير في ما كان يبدو لي سابقاً كمظاهر مبهرة لتجديد الطعام في إطار الحداثة، ليتحول الآن إلى مصدر للنفور. بدأت أرى بوضوح كيف تستخدم أدوات الإمبريالية، والتي تبدأ باللغة والتعليم ولا تنتهي على طاولة الطعام، حيث تجتمع الأسرة، لسحق هويتنا ومقوماتنا كشعوب. هذه الفهم المتجدد يثير تساؤلاً مُلحاً: إلى متى سنظل نسعى وراء كسب إعجاب الغرب، معدلين ثقافتنا ومطبخنا ليتناسب مع ذوقهم؟

نحن الآن على مفترق طرق حاسم، إما أن نستمر في ملاحقة نمط الحداثة الذي استلب منا حريتنا وجوهر حياتنا، أو أن نتحرر من قيودها جميعاً بحثاً عن مستقبل يتناسب مع عظمة تاريخنا ويعيد صياغة هويتنا العربية الإسلامية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هبة الجيطان
محامية ومقدمة برامج طبخ
تحميل المزيد