حرب غزة.. هل بات الحياد السويسري جزءاً من الماضي؟

عربي بوست
تم النشر: 2024/01/15 الساعة 08:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/01/15 الساعة 09:07 بتوقيت غرينتش
منظر مطل على مبنى الحكومة السويسرية مقر الجمعية الفيدرالية والمجلس الاتحادي بالعاصمة برن - shutterstock

مثلت الحيادية إحدى أهم مميزات السياسة الخارجية السويسرية وعلاقاتها مع دول العالم طيلة القرنين الماضيين حتى صارت سويسرا بلداً يضرب به المثل بالحيادية. وعلى الرغم من أن جذور هذه الحيادية تعود للقرن السادس عشر، فإنها ترسخت كسياسة فعلية منذ عام 1815 وأصبحت مبدأً دستورياً في البلاد يفرض على حكوماتها عدم الانضمام لأي من التحالفات العسكرية أو الانخراط في حرب مسلحة. 

وقد تشربت البلاد هذه السياسة خلال العقود الماضية، واتبعتها نهجاً حيادياً خلال الحرب البادرة. فيما أضافت هذه الحيادية لسويسرا قيمة تنافسية على الصعيد الدولي أهلتها لاستضافة عصبة الأمم بُعيد الحرب العالمية الأولى، وكذلك مهدت الطريق لكي تصبح عاصمتها الدبلوماسية جنيف المقر الثاني للأمم المتحدة بعد المقر الرئيسي في نيويورك بعيد الحرب العالمية الثانية. هذا فضلاً عن استضافة عدد كبير من المؤسسات الدولية مثل منظمة التجارة الدولية، منظمة الصحة العالمية، منظمة الهجرة الدولية، المفوضية العليا لحقوق الإنسان، المفوضية العليا للاجئين، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وغيرها من المؤسسات.   

سياسة الحياد السويسرية بدأت بالتراجع تدريجياً بعيد انتهاء الحرب الباردة وانهيار القطبية الدولية وصعود نخبة سياسية في سويسرا تؤمن بفكرة "الحياد الإيجابي" كعقيدة جديدة تسمح لسويسرا بالانخراط بشكل أكبر في السياسة الدولية. ففي عام 2002 انضمت سويسرا أخيراً للأمم المتحدة. أما العام الذي يليه 2003 فقد شهد خطوة لافتة من خلال إرسال سويسرا لقوات بصفة مراقب مع التحالف الدولي في أفغانستان. هذا "الحياد الإيجابي" جاء استجابة للتطورات السياسية والأمنية على الصعيد الدولي وفق وزيرة الخارجية السويسرية السابقة ميشلين كالمي-ري، والتي كانت أحد المنظرين لسياسة خارجية أكثر انخراطاً في كتابها "الحيادية من الأسطورة إلى الأنموذج". 

رغبة بعض النخب السياسية (وتحديداً المحسوبة على اليسار في مقابل اليمين المحافظ والمتحفظ على الإخلال بسياسة الحياد)، وسعي الخارجية والدبلوماسيين السويسريين للعب دور أكثر فاعلية دفع سويسرا للترشح لمقعد غير دائم في مجلس الأمن لدورة 2023-2024 لأول مرة في تاريخ البلاد. 

هذا التوجه الداخلي نحو انخراط أكبر في السياسة الخارجية ترافق أيضاً مع تغيرات في النظام الدولي وتربع الولايات المتحدة الأمريكية على رأس المنظومة الدولية وتبنيها سياسات أكثر هجومية وأحادية كما في التدخل في البوسنة، وحرب العراق، والتدخل في ليبيا، والموقف الأخير من الحرب الإسرائيلية في غزة، تراجع خلالها الحاجة للحيادية كموقف وكوظيفة. 

لكن مزيداً من التسييس في السياسة الخارجية والانخراط في السياسات يترتب عليه اتخاذ مواقف أكثر انحيازاً في الأزمات الدولية. أول مطبات السياسة الخارجية السويسرية الجديدة جاء أثناء الحرب الأوكرانية، إذ تبنت سويسرا وشاركت في العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا وصولاً لتجميد عدد من الحسابات البنكية. وعلى الرغم من رفض البرلمان السويسري لفرض عقوبات من سويسرا بشكل مستقل على روسيا، إلا أن المشاركة السويسرية في العقوبات الدولية على روسيا قد أدى لاحتدام النقاش داخلياً حول مستقبل الحياد وما يمثله من ركيزة أساسية ليس فقط في علاقات سويسرا الخارجية، بل أيضاً في منظومة أمنها القومي وبينتها الاقتصادية. أما روسيا فقد استغلت المشاركة السويسرية في العقوبات لتعلق مشاركاتها في جولات مفاوضات اللجنة الدستورية السورية متعللة بعدم الحياد السويسري.  

سويسرا
أصول الحياد السويسري في الحروب تعود للقرن الـ16

وما كادت عاصفة النقاش إثر الموقف من الحرب الأوكرانية لتهدأ في بلاد الألب حتى جاء هجوم السابع من أكتوبر وما تلاه من حرب إسرائيلية على غزة. موقف سويسرا تراوح بين الارتباك والانحياز للموقف الإسرائيلي كما معظم الدول الغربية. لكن سرعان ما اتخذت برن مواقف تتنافى مع صورتها الحيادية وأهدافها في لعب دور الوسيط على الصعيد الدولي. أول هذه المواقف المفاجئة كان إعلان الخارجية السويسرية في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول عن تعليق المساعدات التي تقدمها لـ 11 مؤسسة مجتمع مدني فلسطينية وإسرائيلية. الخطوة لاقت الكثير من الانتقادات خاصة أن معظم المؤسسات تعمل في مجال حقوق الإنسان والعدالة. كما أن توقيت الخطوة وضع هذه المؤسسات تحت الشبهة وأضر بسمعتها، وأضر بالتالي بالتعاون بين الحكومة السويسرية ومنظمات المجتمع المدني في الشرق الأوسط. 

الخطوة الثانية المفاجئة من قبل سويسرا جاءت من خلال تصويت البرلمان السويسري على إيقاف المساعدات المقدمة سنوياً للأونروا – وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين- (20 مليون فرنك سويسري) وذلك خلال نقاش ميزانية 2024، وبطلب من أحد نواب حزب الشعب السويسري اليميني. القرار عارضته الغرفة العليا للبرلمان (مجلس الشيوخ)، والذي صوتت بفارق ضئيل لصالح رفض إيقاف المساعدات، مع طلب المزيد من الوقت لتقييم تأثيره المحتمل، وفي ظل تعالي بعض الأصوات من داخل سويسرا أو حتى من السكرتير العام لوكالة الأونروا التي عارضت القرار، وكذلك أخذاً بعين الاعتبار ما يعنيه القرار بالنسبة لصورة سويسرا الخارجية، خاصة في ظل احتضانها للمؤسسات الدولية التي تعنى بالشأن الإنساني. وتجدر الإشارة إلى أن موقف الحكومة السويسرية تجاه تمويل الأونروا ليس جديداً، بل يمثل امتداداً لسياسات وزير الخارجية الحالية.

وفي ذات السياق فقد تحركت الحكومة السويسرية نحو إدراج حركة حماس كحركة إرهابية في سويسرا، بعيد هجوم السابع من أكتوبر، علماً أن سويسرا كانت من الدول الغربية القليلة التي اتخذت موقفاً متمايزاً من خلال عدم إدراج حركة حماس كحركة إرهابية. هذه الخطوة قد تكون سابقة بالنسبة لسويسرا ما يدفعها لإدراج حركات أخرى مثل حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) كحركة إرهابية، أو على الأقل يعرضها لانتقادات وضغوطات من دول أخرى مثل تركيا. كما أنها ستقلل من إمكانية لعب سويسرا لأي دور من أدوار الوساطة في القضية الفلسطينية أو ملفات الشرق الأوسط عموماً، وهو ما يعني تراجع ميزتها التنافسية مع الوقت. 

مسار الانخراط المتزايد في السياسة الخارجية والذي تتبعه سويسرا لا يمكن إلا أن يضع بلاد الألب أمام امتحانات متتالية وتحدٍ حقيقي في الإبقاء على سياستها في الحياد، وبالتالي ميزتها التنافسية التي مكنتها من لعب دور الطرف الثالث والوسيط. وفي ظل اضطراب النظام الدولي وتشابك الأزمات لا يبدو أن هذه المهمة ستكون يسيرة على سويسرا!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بلال سلايمة
باحث في المعهد العالي للدراسات الدولية - جنيف
تحميل المزيد