عصر القلق المفرط.. لماذا أصبحنا نخاف من كل شيء؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/22 الساعة 13:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/22 الساعة 13:59 بتوقيت غرينتش
عالم الاجتماع زيجمونت باومان - shutterstock

في مسلسل "Breaking Bad" الشهير كان "والتر وايت" البطل الرئيسي شخصاً عادياً مثل غالبية البشر، مسالماً وله طفل وزوجة، كل طموحه أن يؤمّن لهما معيشة سهلة. لكن فجأة أصيب والتر بالذعر حينما عرف بإصابته بمرض خطير وأخبره الطبيب بأن ما تبقى له في حياته عدة أشهر.

هنا تحول بسبب الذعر إلى شخص آخر تماماً، وقام بارتكاب الكثير من الجرائم والآثام، الغريب أن كل خطوة كان والتر يخطوها من أجل القضاء على خوفه كانت تغذي ذلك الخوف وتزيده توهجاً واشتعالاً، ليبقى أسير حلقة مفرغة من الفزع لا فكاك منها. 

تطرق عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان لهذا النوع من الخوف في سلسلة مؤلفاته التي يسعى فيها لفهم وشرح الواقع المعاصر بأبعاده المركبة، وهو ما يسميه "الخوف السائل"، 

حيث يفرق بين الشعور بالخطر الذي يتميز بأنه آني ويحدث في اللحظة الحاضرة كأن تجد ثعباناً في فراشك أو تواجه لصاً أو قاتلاً، وبين الخوف من شيء سيحدث لك في المستقبل أو في اللحظة التالية.

خوف من وجود تهديد دائم من المستقبل، ولأن المستقبل لا وجود له في الخارج (في العالم الواقعي) فالخوف هنا (خوف والتر وايت على سبيل المثال) لا يعدو كونه فكرة موجودة في الذهن ولا وجود لها في الخارج، وهذا الخوف -حسب باومان- يتميز بأنه يتغذى على نفسه بأن يعيد التهام وسائل مقاومته ويستخدمها لإيجاد مكان له في الواقع.

 وهنا يفرق باومان مرة أخرى بذكاء بين شعور الحماية وشعور الأمان، فرجل العصابات أو السياسي الذي يرتدي القميص الواقي ويركب السيارة المصفحة ويحيط نفسه بالحرس وكاميرات المراقبة يستخدم كل تلك الوسائل لمقاومة شعوره بالخوف، لكنه كلما نظر إليها وتعامل معها تذكره بخوفه، وتؤكد وجوده ولذلك فهي قد تشعره بالحماية لكنها لا تشعره بالأمان.

بالعودة إلى "والتر وايت" سنجد أنه لجأ لتجارة المخدرات لتوفير المال لأسرته بسبب الخوف من المستقبل، ولكنه بعد أن كان خائفاً مما سيحدث لأسرته بعد موته أصبح مرافقاً للخوف، خوف من الشرطة، خوف من منافسيه مروجي المخدرات، فيجد نفسه في حلقة مفرغة كلما هرب من أحد المخاوف وجد آخر يترصده، وكلما قتل أحدهم وجد اثنين آخرين يهددانه وهكذا.

لكن لا داعي للتعجب فكلنا والتر، ففي عصر ما بعد الحداثة نعاني دائماً وبدرجات مختلفة من حالة الخوف السائل تلك.

عصر القلق المفرط

كان الإنسان قديماً يخاف من غدر الطبيعة والموت، لكنه رغم ذلك استطاع التغلب على هذا الخوف عن طريق التطلع إلى الحياة الأخرى باعتبار أن الموت ليس النهاية بل مجرد بوابة لعالم آخر. فتحولت لحظة الموت إلى لحظة التحرر وبداية طريق الأبدية.

وعندما أتت الحداثة قطعت على نفسها وعداً بتحرير الإنسان من جميع المخاوف عبر التقدم والعقل والتطور، لكنها للأسف حين همشت العالم الآخر فإنها لم تقضِ على رعب الموت ولكنها جلبته من المستقبل لتزرعه في اللحظة الراهنة وتعيد توزيعه على تفاصيل الحياة اليومية، ولهذا فإن الخوف في هذا العصر يسمى الخوف السائل لأنه خوف متواصل ودائم ومنتشر.

لقد حررت الحداثة المفرطة الخوف من حدوده القديمة ليصبح أي شيء موضعاً للخوف، تجاعيد الشيخوخة، الخوف من فقدان الوظيفة، الخوف من الطعام المليء بالسعرات الحرارية غير المحسوبة، الخوف من الفيروسات المقاومة للمضاد الحيوي، الخوف من حساب بنكي لا يحافظ على مكانتك الاجتماعية، خوف من فقدان خصوصيتك باختراق بريدك الإلكتروني، كل هذا ولم أذكر المخاوف الكبرى كالإرهاب والحروب.

كل شيء يمتزج بالخوف، يكفيك فقط أن تدخل مقهى لتجد كاميرات المراقبة تراقبك هي الأخرى خوفاً من شيئاً ما. لم تفلح الحداثة في توفير الأمان الموعود، فكل ما يملكه إنسان اليوم هو أن يحكم إغلاق باب المنزل والسيارة والمكتب وكل مكان يتحرك فيه.

في نمط حياة كهذا، يزداد الخوف من الآخر ويصبح محل شك دائم ومصدراً للخطر، فتتقلص بالتالي دائرة الـ "نحن" لتصبح "أنا"، فتتقلص فرص التضامن الاجتماعي وتجهض أي محاولات محاولات لتوطيد العلاقات الإنسانية، فنجد أنفسنا نعيش في عالم منزوع الانسانية، بل وينظر لكل دعوة إنسانية بازدراء ويصورها على أنها محض سذاجة ومثالية مفرطة.

فيصبح عالمنا القائم على الخوف لا يقدس غير القوة التي تملك الحق الدائم، وينظر للضعف على أنه محض خطيئة تستوجب التطهير والإقصاء، وحتى مفاهيم الضعف والقوة هنا تفقد معناها المعتاد وتصبح هي الأخرى سائلة، فأنت لست قوياً في ذاتك بل أنت قوي لأن هناك من هو أضعف منك ويجب أن تحافظ دوماً على أن يكون هناك من هو أضعف منك حتى لا تطالك مقصلة الإقصاء، التي لا تتطلب حدوداً معينة من القوة حتى تتفاداك وتتجاوزك.

فهي تمارس إقصاءً حتمياً لا بد له في كل دورة أن يقوم بتقليم بعض الرقاب، ولذلك فلا حدود للجهد المطلوب منك للبقاء قوياً، ولا يوجد خط نهاية لسعيك، إذ لا وجود لخط معين ستتخلص عنده من خوفك عند تجاوزه، وذلك لعدم وجود قواعد صلبة يرتكز عليها العالم، فقد تم تمييع كل القيم الأخلاقية وتسييل الحقائق الصلبة، فيصبح القلق الدائم من المستقبل هو خوف العصر الذي لا يمكن إدارته.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
كريم بركات
كاتب وباحث من مواليد الشرقية مهتم بالادب والسينما وعلم الاجتماع ويعمل في مجال المحاسبة وادارة الاعمال
تحميل المزيد