الصالات الرياضية بدلاً من السجن.. كيف أصبحنا أسرى لأحلامنا الفاشية؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/01/27 الساعة 13:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/01/27 الساعة 13:35 بتوقيت غرينتش

الثلاثاء، أنقرة، الحادي والعشرون من ديسمبر، درجة الحرارة "-2" بمعطفي وكوب الشاي أقف أمام قسم "العلوم السياسية" بجامعة الشرق الأوسط التقنية، أمضي استراحة ما بين المحاضرات في ملل، مفتقداً صديقي حمزة ورائحة دخان سجائره الرديئة ولعناته الصباحية للنظام العالمي والقائمين عليه.

في ذلك الصباح، عاودتني ذكريات أحاديثه عن الثورة والتمرد والنضال. كم كان ليلنا بائس يشبه ركننا الخاص في المقهى، كنا مصممين على وصف الحياة بكلمات كبيرة، مؤمنين بأفكار عظيمة، فخورين برفقتنا، أوفياء لبعضنا، وللسماء، للتبغ، للشاي وللمدينة الجافة، أنقرة. 

عدت للمدرج الجامعي بعد انتهاء الاستراحة، ثرثر الأستاذ كثيراً، وقبل ساعة من انتهاء المحاضرة أغلق الكتاب وخلع نظارته وألقى الكمامة على المنضدة، لوهلة اعتقدنا جميعا أننا مقبلون على وابل من التوبيخ جراء علاماتنا المتدنية في الامتحان الأخير. لكنه -أي الأستاذ- صاح "لماذا لا تتمردون؟" بوجه أحمر وبدون أي لباقة أكاديمية. كرر السؤال مرة أخرى "لماذا لا تتمردون؟".

صمت مطبق، ثم بكسوف رد زميل بسؤال "على من ولماذا؟" ليصرخ الأستاذ تلك هي المشكلة أنكم لا ترون شيئاً يستحق التمرد، أنتم عبيد لأنفسكم ولطراز الحياة الآنية، أنتم "هتلريون" مع ذواتكم، تطمحون فقط لتكونوا الإنسان الأعلى دائماً، مالك نفسه، المتعالي على الحزن والضعف.

لماذا لا تنقضون على العالم بشراسة؟ لماذا تتماهون مع الساسة والدولة أغلب الوقت وتحملون أنفسكم أسباب فشلكم؟

ما بكم.. علاماتكم مرتفعة، نقاشاتكم شديدة الدبلوماسية، خاضعين للواقع وكأنكم سن السبعين.

أنهى الأستاذ المحاضرة بملحوظة تذكرنا بدعم الطبقة البرجوازية الصغيرة لصعود وسيطرة الفاشية في أوروبا، وأضاف أننا كطلاب جامعة مرموقة نصنف ضمن هذه الطبقة.

في نفس الإطار يلقي الفيلسوف الألماني المعاصر ذو الأصول الكورية بيونج شول هان نظرة نقدية شاملة على المجتمع المعاصر من خلال كتابه "السياسة النفسية: النيو ليبرالية والتقنيات الجديدة للقوة". يصف هان مجتمعنا الحالي بـ"بمجتمع الإنجاز"، حيث السيطرة والاستعباد لم يعودا من الخارج، بل من الداخل. لا تحتاج المؤسسات الانضباطية للسيطرة علينا كلمات كـ "لا تستطيع، ممنوع، ينبغي أن"، بل حلت محلها ذواتنا بكلمات أكثر فاعلية كـ "تستطيع، يمكنك، لا يوجد مستحيل". لتحل بدلاً من السجون والمؤسسات القمعية، صالات اللياقة البدنية، والمكاتب الأنيقة، والمصارف، والمطارات، وعيادات الصحة النفسية وغيرها من المؤسسات الإرشادية لحياة أفضل.

يعيش كل من المجتمع والأفراد بإيجابية مفرطة، هذا المناخ يبدو في ظاهره محملاً بوعود التغيير والانعتاق من القيود، لكنه في حقيقة الأمر لا يعد أكثر من تحويل مركز التحكم والسيطرة من الخارج إلى الداخل.

بالنظر للواقع نلاحظ حين يعجز الفرد عن الوفاء بواجب التطوير المستمر للذات والارتقاء بها، تخور قواه وتنطفئ شمعته. حينها يأتي الدمار من داخل الذات، وبذلك يصعد الاكتئاب ليكون سمةً أساسية في المجتمع رغم رفاهية عصرنا.

لا يبدو طرح هان مبالغاً فيه، فأفراد اليوم يسعون للكمال المادي والنفسي، يحضرون أنفسهم ليكون على أهبة الاستعداد لاقتناص أفضل الفرص ليصبح قادرين على الاستهلاك أكثر. وليس استهلاك المنتجات فقط هو المقصود، بل استهلاك كل قيمة ومبدأ أيضاً، كالحب، والصداقة.

كما نختار التخصصات الدراسية وفقاً لاحتياجات السوق، معظم العلاقات الاجتماعية بين البشر يتم إنشاؤها تحت يافطة الربح المشترك، نحن نبحث دائماً على الأفضل واضعين صحتنا النفسية قبل كل شيء.

تصبح كل المبادئ والمعاني سائلة تتحدد قيمتها بسعر صرف السوق، ومن يتمرد أو يتمسك بقيم غير استهلاكية فهو صعلوكاً غير ناضج.

"مجتمع الإنجاز" يؤكد أننا بالقدر الصحيح من الإصلاحات نستطيع الوصول إلى الحلم الطوباوي وخلق عالم أفضل، وهذا ما كانت تؤمن به الفاشية أيضاً بصنع عالم جديد شجاع، خالٍ من الفقراء والمعاقين والأقليات غير القادرين على تطوير ذواتهم. 

رغم تباين نشأة البشر فإنه في "مجتمع الإنجاز" تتشابه دوافع الأفراد الغريزية والعاطفية، والحاجة إلى الإيمان بالكمال البشري والتسليم لسلطة الخبراء، الهوس بجمالية الشباب، عبادة العمل، والحاجة إلى دولة قوية لتنظيم المجتمع على الصعيد الوطني والعالمي.

في "مجتمع الإنجاز" لا يوجد ثوار ولا يوجد تمرد، بل يصبح الحديث عن الثورة والمساواة والحقوق الاجتماعية كلمات عاطفية غارقة في الرومانسية.  

لم يتهمنا الأستاذ بالفاشية صراحة لكنه مُحق، نحن ندعمها، نعم نحن نملك ما نخاف أن نخسره، ذواتنا. نعمل ونستثمر في أجسادنا من أجل تطوير أنفسنا لبيعها لأفضل مؤسسات يمكن لها أن توفر لنا حياة أكثر استهلاكاً في المستقبل.

 أعتقد أن الفيلسوف بيونج شول هان لن يختلف معه أي أستاذنا، ففي عالم الإنجاز لا يوجد غير الإيمان المطلق بالأرقام والحسابات مع إهمال أي جانب عاطفي فطره الخالق في الإنسان.

اليوم يعتقد أناس أكثر مما ينبغي أن عيش المرء من أجل نفسه، من أجل مصالحه هو أمر لا محيد عنه.

مسبات صديقي حمزة لم تكن بسبب ردائه سجائره كما كنت أعتقد، بل كانت بحق للعالم، وهذا ما أكده غضب الأستاذ علينا، وطرح الفيلسوف الكوري. 

دعونا لا نسب العالم ليوم واحد، ولنقل ما قاله الفيلسوف الفرنسي آلان باديو: "لابد لنا من شجاعة امتلاك فكرة، فكرة عظيمة، فلنقتنع بأن امتلاك فكرة عظيمة ليس مثيراً للسخرية ولا إجرامياً.. يجب أن نقول إن المرء لا يحيى دون فكرة.. فلنمتلك شجاعة الانفصال عن أولئك الناس.. سنرفض الأمر الملزم: القدرة على الاستهلاك تكفيك. عش دون فكرة".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد إبراهيم
كاتب مصري
باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
تحميل المزيد