خلق الله للكائنات الحية مجموعة من الحيل لتحافظ على وجودها وحماية نفسها من التهديد والمخاطر، ويظهر ذلك جلياً في عالم الحيوانات، مثل الطيور التي تعيش في مناطق جليدية، فإن أجسامها مزودة بحيلة دفاعية تساعدها على عدم التجمد، ففي أثناء سيرها على الجليد ينتقل الدم ذو الحرارة المرتفعة إلى الأقدام ذات الحرارة المنخفضة، وتظل هذه العملية في التكرار ليظل الجسم محافظاً على درجة حرارة مناسبة للجسم تحفظ حياة الطائر، وغيرها الكثير من الأمثلة في عالم الحيوانات.
لولا وجود تلك الحيل لما استمرت حياة الكائنات وانقرضت مع تقلبات الطقس، أو سَهُل افتراسها مع عدم وجود حيل عند المواجهة.
كذلك الإنسان، خلق الله -سبحانه وتعالى- له مجموعة من الحيل الدفاعية، منها النفسية التي تحدث لا شعورياً عند مواجهة المواقف الضاغطة للتخلص أو التكيف من التوتر والقلق حتى تساعده على تحمل الحدث الضاغط، وتحافظ على توازنه النفسي، وتحميه من الاضطرابات والعلات النفسية، كالحصون والقلاع التي تحمي مدينة من الهجوم، وتجعلها عصية على السقوط في يدي العدو، أو الدروع التي يتترس بها الجنود لحمايتهم من الجروح.
وظيفة الحيل الدفاعية
يواجه الإنسان مجموعة من المواقف الضاغطة والأحداث الشاقة التي قد تنتج الأزمات النفسية، ويختل معها توازنه النفسي، منها ما ينجح في السيطرة عليها أو حلها بأساليب الحل الحياتية الناجحة، ومنها ما تفوق قدرته على الحل؛ فيلجأ إلى تلك الحيل الدفاعية لتمويه المشكلة أو الخداع أحياناً أو الهروب منها أو استبدالها، فتساعده على تحمل الصدمات والأحداث الضاغطة الشاقة، كي لا يختل توازنه النفسي وينهار، وكأن عقلك يخبرك "لا داعي لكل هذا التوتر والقلق، فإن كل شيء على ما يرام".
ولعل أول من طرح لنا ذلك المفهوم هو "سيجموند فرويد"، وقسّم تلك الحيل الدفاعية إلى أقسام، وسماها لنا.
أنواع الحيل الدفاعية
يمكننا تصنيف الحيل الدفاعية إلى ثلاث:
1- الحيل الخداعية
وظيفتها تمويه المشكلة، أو عدم الاعتراف بها وإنكارها واستبعادها من مستوى الشعور بآثارها أو التفكير فيها، ومثال ذلك:
التبرير: وهي الحيلة التي يلجأ إليها كل فرد عاجز أو فاشل أو مندفع وراء رغباته لتبرير ما يفعل، وإيجاد سبب لما يريد، فيختلق مبرراً أو سببباً يبدو معقولاً لفعله.
مثال: التاجر الغشاش، فإنه يبرر غشه بأن الأسعار مرتفعة، ولا أستطيع البيع بسعر التكلفة الحقيقية.
الكبت: وهي الحيلة التي يستبعد فيها الإنسان الشعور بالذنب أو الخجل، ويكبت الذكريات المؤلمة ويدفعها إلى اللا شعور، ويمنع عودتها إلى منطقة الشعور، وتضر الفرد إن زادت عن الحد المطلوب للتوافق النفسي، بأن تشكل تراكمات من المكبوتات التي قد تسبب الاضطرابات النفسية أو العقلية.
مثال: حينما لا يستطيع الطالب تحقيق هدف دراسي يسعى للوصول إليه، كدراسة تخصص محبب له، فإن العقل يدفعه إلى كبت الشعور المصاحب للفشل كالإحساس بالذنب على تقصيره.
الإسقاط: وهي حيلة يحاول فيها الإنسان إسقاط أسباب الأحداث التي تسبب له قلق على أشخاص أو ظروف أخرى.
مثال: حينما يفشل الموظف في إنجاز مهمة في العمل، فيُسقط الأسباب على ظروف العمل، أو سوء معاملة المدير، أو قلة الراتب.
التكوين العكسي: هي حيلة يحاول الفرد أن يظهر فيها رد فعل عكس ما يشعر به في داخله، رغبة منه في التكيف مع الحدث.
مثال: حينما يتظاهر الابن باللامبالاة من عقاب الأب بالحرمان من شيء محبب له، ويظهر عكس ما يشعر به من الضيق والحزن.
العزل: وهي حيلة دفاعية، يعزل فيها الفرد أفكاره ومعتقداته ويخفيها، أو يظهرها حسب البيئة.
مثال: الرجل يظهر صدقه في بيئة العمل وأمام الآخرين، ويكذب في بيته، أو يأخذ حقوق أقربائه بدون وجه حق، ومع ذلك يبرر هذا التناقض.
2- الحيل الهروبية
هي الحيل التي يحاول فيها الإنسان، لا شعورياً، الهروب من عدم قدرته على تحقيق ما يطمح إليه، والتبعات النفسية للموقف المحبط، بنشاط يستغرق في أدائه، ويظهر في سلوكه، ومثال ذلك:
أحلام اليقظة: وهي حيلة يستغرق فيها الفرد لإشباع نفسه بشيء لم يستطع تحقيقه في الواقع.
مثال: الفرد حينما يتخيل نفسه في مشهد تمثيلي ينتجه عقله بأنه بطل وقوي قادر على الدفاع عن نفسه في موقف لم يستطع في الحقيقة الدفاع عن نفسه فيه.
النكوص: وهي حيلة يتراجع فيها سلوك الفرد إلى أساليب بدائية، كانت قد تجاوزتها مرحلته العمرية.
مثال: طفل عمره 10 سنوات يلجأ، لا شعورياً، للتبول على نفسه، أو وضع أصبعه في فمه حينما يقل اهتمام أمه به، أو عند ولادة أخ له، أو الرجل الكبير حين يستغرق في البكاء أو الصراخ عندما ينجرح شعوره أو يشعر بخيبة أمل أو يفقد أحد المقربين.
3- الحيل الاستبدالية
هي حيل لا شعورية يحاول فيها الفرد استبدال واقع بدلاً من آخر أو امتثال صفات بدلاً من صفات، ومثال ذلك:
التعويض المسرف: وهي حيلة تتمثل في استجابات مسرفة، يحاول بها الفرد تعويض ما فاته والتغلب على عقدة نقص.
مثال: الفرد حينما يأكل بنهم وشراهة وإسراف لأكلة حُرم منها أو لم يستطع طلبها مادياً، أو الرجل حين يستعرض ممتلكاته بشكل مسرف أمام الكاميرا وبلا داعٍ.
التقمص: وهي حيلة يتقمص فيها الفرد حركات وأداء شخص آخر قد نجح في الوصول لشيء لم يستطع الفرد تحقيقه.
مثال: المراهق حين يقلد شخصاً مدخناً، فهو يظن أن ذلك سيمنحه القوة والرجولة، أو أحد الأفراد يقلد أحد المشاهير في كل شيء.
الإزاحة: وهي حيلة يقوم بها الفرد بتحويل العاطفة أو الانفعال من شخص إلى آخر أو من فكرة إلى أخرى.
مثال: المرأة العاملة حينما لا تستطيع مواجهة ضغوط العمل وتكبت انفعالاتها وتحوّلها على أبنائها وزوجها عند العودة إلى المنزل، فتتشاجر معهم على أتفه الأسباب.
ختاماً.. الحيل الدفاعية التي ذكرناها تحدث لنا جميعاً، بل هي ضرورية لنا لمواجهة ضغوط الحياة، ولكنها تحتاج إلى وعي منا عند حدوثها؛ لأنها تحدث بشكل لا شعوري، وهي بيئة خصبة لحدوث الاضطرابات النفسية، كما أنها تنكر الواقع وتشوّه وتزيّف أحداثه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.