انتشرت في الآونة الأخيرة مناشدات مدربي التنمية البشرية وآخرين بمصطلح "ضرورة خروج الفرد من منطقة الراحة"، وقصدوا بمنطقة الراحة هي: "الحالة التي يعيش بها الفرد راضياً بواقعه بسبب تعوده عليه ضمن روتين محدد، ينتج عن هذا الروتين تكيّف ذهني، يعطي الشخص شعورًا بالأمان، وفي نفس الوقت يحد من قدرته على التقدم والإبداع".
تم تسويق المصطلح على أن المختلفين معه هم أشخاص محدودو الفكر، ضعاف العزيمة، قليلو الطموح.
لا خلاف أن هذا المعنى يحفز الفرد إلى تطوير ذاته وخلق الإبداع؛ مما يزيد من احتمالية تغيير حياته إلى الأفضل، ولا أختلف من حيث المعنى، لكني أختلف في إطلاق هذا المصطلح "ضرورة الخروج من منطقة الراحة" لكل الأفراد وللعامة بغض النظر عن الفروق الفردية بين البشر في "حدود مهاراتهم، إمكانياتهم، ميولهم، قدرة استعدادهم للتغيير، وطبائعهم الشخصية".
كل هذه العوامل لم تؤخذ بعين الاعتبار عند إطلاق المصطلح وخروج المناشدات للجمهور العام، وتغافل البعض عن اختيار الفئة المستهدفة بهذه العبارة "ضرورة الخروج من منطقة الراحة" وانساق وراء رونق المصطلح تسويقياً بعيداً عن استهداف الفئة الحقيقية التي تحتاج لهذه المناشدة.
من يجب عليه أن يخرج من منطقة الراحة؟
كما ذكرت سلفاً أنني لا أختلف مع هذه المناشدة من حيث المعنى؛ لكني أختلف معها عند توجيه هذه المناشدة للعامة، فأنا أرى ضرورة توجيهها إلى ذلك الشخص الذي يتمتع بمهارات عالية وقدرات إبداعية، ولا يستثمر هذه الهبات بما يعود بالنفع عليه.
مثل شخص يتقن مهارات متطورة في الفوتوشوب ويعتمد في تصميماته على القوالب الجاهزة، أو شخص يعمل فقط أيام العمل التي تكفي احتياجاته الأساسية من الأكل والشرب، وباقي الأيام من الشهر عاطل عن العمل، أو ذلك الشخص الذي اكتفى بعمله الذي ينتهي عند الثانية ظهراً وباقي اليوم لا يسعى لتطوير ذاته أو حتى تطوير مهاراته في العمل ولا يسعى للانتقال لعمل آخر وخلق فرصة جديدة تغير واقعه لواقع أفضل، مع أن العوامل المساعدة من حوله والفرص كثيرة، هذه الأمثلة من البشر تصلح معهم هذه الدعوات بالمناشدة وعدم استجابتهم لها تقصير شديد في حق أنفسهم.
كيف يصبح الخروج من منطقة الراحة مجازفة خطيرة؟
إذا لم يكن الشخص يمتلك المهارات والقدرات الشخصية اللازمة للنجاح ولم تتوفر العوامل الخارجية الصانعة للنجاح، عندها يكون الخروج من منطقة الراحة مجازفة خطيرة، فقد يفقد الشخص وظيفته ويخسر أمواله إذا كان يسعى للعمل الحر واستقال من عمله من أجل ذلك وفشلت تجربته في العمل الحر.
يكون العمل البسيط الذي استطاع تحصيله هو أفضل ما هو متاح له وأفضل ما يمكنه الحصول عليه، وقد يكون بحثه عن تغيير عمله كبحث شخص تائه عن مخرج للعودة وسط صحراء شاسعة؛ لذلك علينا أن نجعل أهدافنا وفق ما هو متاح، وعلينا أن نجعل طموحنا وفق ما هو ممكن.
الانقياد وراء العبارات التسويقية الرنانة وحالات النجاح الزائفة
اقترن نشر هذه الدعوات وتسويقها بصور ذلك الشاب الثري صغير السن الذي استطاع أن يخرج من منطقة الراحة واستقال من عمله الذي كان يقيد إبداعه، ويحد من طموحه، وبفضل خروجه من منطقة الراحة أسس مشروعه الخاص ونجح سريعاً، وللأسف من يذكر مثل تلك القصص يتغافل عن ذكر العوامل الحقيقية الأخرى التي أدت إلى نجاح هذا الشاب.
تلك العوامل الأخرى التي قد لا تكون متاحة للآخرين، مثال على ذلك: صديقي الذي دائماً أجلس معه ليحدثني عن عبودية الوظيفة واستعباد الموظفين، وكيف أنه استطاع ركل الوظيفة وتقديم الاستقالة وقام بتأسيس مشروعه الخاص الناجح، ولم يحدثني عن شريكه الخليجي والشركاء الآخرين الذين ضخوا الأموال الكثيرة وسهلوا بعلاقاتهم انتشار الشركة وزيادة عدد العملاء.
لكنه لم يحدثني عن أساليبه الملتوية في استقطاب العملاء والاحتيال أحياناً، بالتأكيد هذه العوامل وإن اختلفنا في طريقتها لكنها تظل عوامل ساهمت في النجاح بمقاييس سوق الأعمال، هذه العوامل التي لا يستطيع الكثير تبنيها، ومنها ما لا قد يتاح للكثير من البشر، ومع عدم توافر هذه العوامل لهم تظل الوظيفة هي منطقة الأمان بالنسبة لهم، والبقاء فيها أفضل من الخروج منها.
العجز المكتسب وعلاقته بالانجرار وراء دعوات الاستقلالية
إن المحاولات الفاشلة للأفراد الذين ينجرون وراء هذه الدعوات ويسعون إلى الخروج من منطقة الراحة مع عدم امتلاكهم للقدرات الشخصية والمهارات اللازمة ومع غياب العوامل التي تضمن نجاحهم، يؤدي تكرار فشلهم وتراكمه إلى ما يسمى في علم النفس "العجز المكتسب" كما وصفه "مارتن سيليجمان" عالم النفس الأمريكي.
تتضمن أعراض العجز المكتسب ضعف ثقة الفرد في مهاراته، وتوقعاته السلبية حول النتائج، مما يؤدي إلى انخفاض تقدير الذات، وضعف الدافع، ونقص الجهد، والإحباط السريع، هذه الآثار النفسية تجعل الفرد غير قادر على التغيير حتى مع الأشياء الممكنة، فقد عمم خبرات الفشل وسيطر إحساس العجز على كل سلوكه ومحاولاته لتحقيق الأهداف البسيطة.
لذلك عزيزي القارئ لا تنخدع بالشعارات الرنانة، فما يصلح لغيرك قد لا يصلح لك والعكس صحيح، وعليك أن تتحرك خارج منطقة الراحة وفق إمكانياتك ومهاراتك والعوامل الخارجية المتاحة، وأن تظل في منطقة الراحة إن كان الخروج منها خطراً، وعليك أن تفرق أولاً بين الواقع الواجب تغييره والواقع الواجب قبوله والرضا به، وانتقِ ما يناسبك، واخطُ خطوات نحو ما ينفعك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.