لست سياسياً أجيد تحليل الأحداث من منظور السياسة، لكني أحاول جاهداً تحليل الأحداث من منظور علم النفس ومن سلوكيات البشر ودوافعهم للأحداث، كوني أؤمن بأن المكون البشري هو الأهم والأقوى تأثيراً في أحداث الحياة.
ومن هذا المنطلق، لا شك أن الجماهير هم المكون الأساسي للثورة المصرية التي وقعت أحداثها في الـ25 من يناير عام 2011، والتي امتد صداها إلى يومنا هذا، وباعتبارها حدثاً جماهيرياً، فمن الغريب أن معظم المحللين يتناولون الثورة بالتحليل من نظرة سياسية بعيداً عن نظرة علم النفس المكون الأساسي للثورة وهم الجماهير.
ولعل أشهر من شرح لنا الخصائص النفسية للجماهير وأفكارها وطبيعة تكوينها ودوافع تحركها، هو الكاتب الفرنسي "غوستاف لوبون" في كتابه الشهير (سيكولوجية الجماهير)، ويُعد هذا الكتاب من كتب علم النفس الاجتماعي، وهو المرجع الأساسي لتفسير الحراك الشعبي والجماهيري للأحداث الكبرى في تاريخ الشعوب كثورة 25 يناير.
أحاول في هذا المقال الاستعانة بهذا الكتاب لتحليل الجانب النفسي للجماهير في ثورة 25 يناير، تفسيراً للأحداث ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، تاركاً الإسقاطات الذهنية لعقل القارئ.
الوحدة العقلية للجماهير
حينما نعود بالذاكرة لمشاهد الثورة في بدايتها نجد أن وحدة الجماهير المشاركة كانت من أبرز ما تميزت به الثورة وجعلتها عصيّة على محاولات أعدائها تفتيتها وزرع الخلاف بين جماهيرها، على الرغم من اختلاف توجهاتهم السياسية وطبقاتهم الاجتماعية ومرجعيتهم الدينية.
وهذا ما ذكره الكاتب في تفسير وحدة الجماهير، على الرغم من تباين واختلاف الأفراد، فحسب (القانون النفسي لوحدة الجماهير الذهنية) تذوب أفكار الفرد من الجمهور وتوجهاته وسط الحشد الجماهيري المُلتف حول هدف واحد، كما كان حال الأهداف التوافقية التي تبنَّتها ورفعتها جماهير ثورة يناير؛ مثل (عيش، حرية، عدالة اجتماعية).
وهذا ما يجيب على تساؤل البعض: كيف لتكتل من البشر، أفراده مختلفو التوجه، أن يتكون لديهم توجه جديد توافقي؟
الروح الجماعية لجماهير الثورة
اتسمت روح جماهير الثورة بالجماعية والتكتل في معناه الخام، وكأن الفرد الواحد من الجماهير قد ذاب وسط الحشد الجماهيري ليتشكل من جديد في تكتل عصيّ على الانقسام.
وقد ذكر جوستاف لوبون، في هذا الصدد، أن "الظاهرة التي تدهشنا أكثر في الجمهور النفسي هي؛ أياً تكن نوعية الأفراد الذين يشكلونه، وأياً يكن نمط حياتهم متشابهاً أو مختلفاً وكذلك اهتماماتهم ومزاجهم أو ذكاؤهم، فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية.
وتلك الروح تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي كان سيحس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان معزولاً، وبعض الأفكار والعواطف لا تنبثق أو لا تتحول إلى فعل إلا لدى الأفراد الذائبين في صفوف الجمهور الثوري.
إن الجمهور من الناحية النفسية عبارة عن كائن مؤقت مؤلف من عناصر متنافرة ولكنهم متراصّو الصفوف للحظة من الزمن. وهم في ذلك الحال يشبهون بالضبط خلايا الجسد الحي التي تشكل عن طريق تجمعها وتوحدها كائناً جديداً يتحلى بخصائص جديدة مختلفة جداً عن الخصائص التي تمتلكها كل خلية".
هكذا نستطيع تفسير سلوكيات وأحداث ثورية اتسمت بالغرابة وطرحت تساؤلات لم تقدم لها إجابات شافية مثل؛ كيف للمسيحي أن يساعد المسلم على الوضوء وأن يحميه أثناء الصلاة؟ وكيف للعلماني أن يقبل بمزج الدين بالسياسة في مشاهد الصلوات الجماعية وسط ميدان الثورة؟
والإجابة على ذلك أن الفرد وسط الجماهير يقبل بما لا يتفق مع توجهاتهم، ولكن يتوافق مع أفكاره للحظة مؤقتة من الزمن تحكمها أهداف الجماهير التوافقية وفق خصائصهم النفسية التي أُشير إليها إجمالاً في هذا المقال.
جماهير الثورة وتحولهم من شركاء إلى فرقاء
لعل الوصف الأوّلي للفئات المشاركة في ثورة 25 يناير بشركاء الثورة كان وصفاً دقيقاً شاهداً على الوحدة في بداية الأحداث وتبعية أتباع هؤلاء الشركاء، وباعثاً على مواصلة تحقيق مكاسب الثورة حتى إسقاط النظام.
لكن تحول شركاء الثورة وأتباعهم إلى فرقاء، واستخدمت الثورة المضادة البعض لضرب البعض الآخر بالوعود الزائفة بالتمكين في المشهد السياسي المستقبلي لبعض الشركاء، والتلويح بالتهديد للبعض الآخر، وإبراز مشهد انقسامي للشركاء السابقين.
فسقط المقوم الأهم لنجاح الثورة في بدايتها وهو (وحدة الجماهير) وبدأت الثورة تضعف شيئاً فشيئاً، وتتآكل من الداخل حتى سهل القضاء عليها وعلى جماهيرها المناصرين لها، وهذا ما دفع البعض ليتبرأوا منها بعد أن كانوا يتشدقون بها.
حتى لا تعود بك عقارب الساعة إلى الوراء
عند تأمل هذا المعنى من سلوك البشر الفردي أو الجمعي، نجد أن من يترك عمله ناقصاً، يفقد المكتسبات التي حققها في بداية عمله، فيعود به الزمن إلى الوراء ويرجع إلى الحال الذي كان عليه، بل يفقد المكتسبات؛ ذلك لأنه لم يجن الثمار بعد، فهو زرع وروى لكنه لم يرعَ ليحصد.
فلابد للبشر حين ينشدون نصراً أن يُكملوا مواصلة الاتجاه حتى يصلوا إلى ما يريدون، ثم يواصلون الاتجاه مرة أخرى حتى يضمنوا المكسب الذي حققوه، فالمطلب يبدأ باحتياج فيتحول إلى فكرة، تغذيها مشاعر، تترجمها سلوكيات متواصلة، لتضمن تحقيق المطلب المنشود.
النار تبدأ من مُستصغر الشرر
نريد بثورة يناير أن تعود إلى عهدها الأول بما تحمله من سلوكيات شركاء الثورة من روح الجماهير الواحدة والوحدة العقلية لأتباعها. على الفرقاء العودة إلى سابق عهدهم كشركاء بما تبقى لديهم من فتات وتجميع ما تبقى من شتات.
فالنار تبدأ من مستصغر الشرر، وليقود سلوكهم الجمعي أهدافهم التوافقية، لا أطماعهم الخاصة، ويخلق دوافعهم حب الوطن لا أيديولوجياتهم، ويحتكموا في الصدارة لما يحتكم إليه الناس من أدوات تقودها الجماهير لا فئة دون الأخرى، كي تستكمل الثورة عملها المنقوص.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.