يُعرَّف الوطن بأنه -بشكل عام- قطعة الأرض التي تعمرها الأمة بشكل خاص، وهو المسكن، فالروح وطن؛ لأنها مسكن الإدراكات، والبدن وطن؛ لكونه مسكن الروح، والثياب وطن لوطنها مسكن البدن، فالمنزل والمدينة والدولة والعالم كلها أوطان لكونها مساكن.
واتفقت معظم مراجع الفقه الدستوري على إطار عام يحدد التعريف الاصطلاحي للمواطنة على النحو التالي:
المواطنة هي علاقة بين فرد ودولة، كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، وهي تسبغ على المواطن حقوقاً سياسية مثل:
ـ حق الانتخاب، وتولي المناصب العامة.
ـ عضوية كاملة في دولة، أو في بعض وحدات الحكم.
ـ انتساب الشخص لدولة معينة، فهي رابطة بينه وبينها، وهي بذلك تتصل بالقانون الدستوري من زاوية تحديده للمواطن كركن للدولة، ولكفالته حق المواطن في جنسيته.
فالمواطنون هم الذين يتمتعون بجنسية الدولة؛ لأن المواطنة صفة لا تثبت إلا بالنسبة للأشخاص الذين يتمتعون بجنسية الدولة، كما يتمتعون في الوقت ذاته بكافة الحقوق السياسية التي يقررها الدستور فيها، وهي حقوق حصرية لا يتمتع بها الأجانب المقيمون فيها.
ويستفاد من كل التعريفات السابقة أن المواطنة يترتب عليها عدد من الحقوق سواء للدولة أو للمواطن، ومن خلال التعريفات الاصطلاحية السابقة للمواطنة يبدو جلياً أنها علاقة بين المواطن والدولة، تتمخض عنها جملة من الحقوق والواجبات.
والمواطنة شيء مشروع وفطري لدى الإنسان إذا ما غلا فيها وقدّمها على ما ينبغي أن يكون أقدس وأعظم لديه. ويغلو بعض الوطنيين في فكرة الوطنية، أو عاطفة الوطنية، حيث نرى بعضهم يجعلون الوطن مقابل "الدين" أو بديلاً عن "الله"، فكما تبدأ الأمور باسم الله، تبدأ باسم الوطن، وكما يقسم الناس بالله يقسمون بالوطن، وكما يعمل الناس لوجه الله، يعملون لوجه الوطن، وكأن الوطن أصبح إلهاً، أو وثناً يشركونه مع الله عز وجل، مع أن المسلم قد جعل محياه ومماته، كما جعل صلاته ونسكه لله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 ـ 163].
والحس الديني عند المسلم يرفض أن يقرن باسم الله اسماً آخر، أو يقسم بأحد أو بشيء مع الله، أو يعمل عملاً لوجه غير وجه الله، ناهيك أن يفرده.
و"الوطنية" مشروعة ومطلوبة إذا لم تتجه هذا الاتجاه المغالي، فإن الغلو في كل شيء يفسده، وقد رأينا الإسلام يحذر أشد التحذير من الغلو في الدين، وكذلك الغلو في الوطن والوطنية.
ومما يذكر هنا أن أمير الشعراء أحمد شوقي برغم نزعته الإسلامية الواضحة يبالغ في الوطنية، مثل قوله:
وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه.. نازعتني إليه بالخُلْدِ نفسي
وأشد منه يخاطب أبناء مصر:
وجه الكِنانَةِ ليس يُغضِبُ ربكم.. أن تجعلوه كوجهه معبودا
ولُّوا إليه في النهار وجهكم.. وإذا فزعتم فاعبدوه هجودا
بل رأينا بعض الغلاة من العرب يقدِّم الوطن على الدين بصراحة، ويجعل كلمة الوطن هي العليا، وليست كلمة الله، ولا يبالي بما يؤمن به الناس من العقائد الدينية، ولا ما يحسُّون به من المشاعر يقول:
بلادك قدِّمها على كل ملَّة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
هبوني ديناً يمنح العرب وحدة وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحِّد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
وتحدث المشكلة كذلك عندما تتحول النزعة الوطنية إلى عصبية جاهلية يتجمع فيها أهل الوطن ضدَّ غيرهم، وينحازون فيها بعضهم لبعض، بنصر أخيه في الوطن ظالماً أو مظلوماً، ويستجيب له إذا دعاه في الحق أو الباطل على نحو ما قيل في وصف أحد زعماء قبيلة تميم الأحنف بن قيس: إذا غضب؛ غضب له مئة ألف سيف، لا يسألونه فيم غضب؟
وكما وصف أحد الشعراء أبناء قبيلته بقوله:
لا يسألون أخاهم حين يندبُهم في النائباتِ على ما قال برهانا
العصبية: أن تعين أهلك وقومك على ظلم الآخرين، وأن تشهد لهم على الآخرين محقِّين كانوا أو مبطلين، وأن تقول ما قال أتباع المتنبئين الكذبة من قبائل العرب أيام حروب الردة: كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضر.
هكذا تكون العصبية القومية، وكذلك تكون العصبية الوطنية، كما رأينا ذلك في النزعات النازية والفاشية في أوروبا في أواسط القرن العشرين، من رفع شعارات: ألمانيا فوق الجميع، وإيطاليا فوق الجميع، والإسلام يعلّم المسلم: أن يدور مع الحق حيث دار، وأن يقول الحق وإن كان مرَّاً، وأن يكون قوَّاماً بالقسط شهيداً لله، ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، وكذلك لا يجرمه شنآن قوم على ألا يعدل، بل يجب أن يقوم بالقسط مع من يحبُّ ومع من يكره، فعدل الله لجميع عباد الله، وقد أنكر الإسلام العصبية بكل أنواعها، سواء أكانت عصبية قبلية، أم عصبية قومية، أم عصبية إقليمية، أم أي عصبية كانت.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عَصَبة، أو ينصر عصَبة فقتل، فقتلته جاهليته".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.