كأسٌ من الكحول على شكل حبة دواء.. هل أدوية الأمراض النفسية تجعل حياتنا أفضل؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/12/23 الساعة 11:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/12/23 الساعة 11:21 بتوقيت غرينتش

تخيّل معي أن يكون بحوزتك حبة دواء مُضادة للحزن، وحبة أخرى للتغلب على الوساوس والقلق، وثالثة بإمكانها أن تُلهيك عن الشعور بالوحدة.

تلك الحبّات لها مفعول السحر، تبتلعها فيختفي الحزن والقلق والشعور بالوحدة في غمضة عين، فهل حينها ستكون الحياة أجمل؟

العالم مكانٌ مخيف.

حقيقة ننساها ونحن ندور في روتين حياتنا المُملة، حيث نظنّ أنّ الأشياء السيئة تحدث للآخرين فقط، متوهمّين أنّنا نعيش في أمان، نشتكي غلاء الأسعار، وزحمة الطرق، ومن النفوس التي لم تعد صافية كما كانت قديماً.

إلى أن يحدث شيء، يهزّ ذلك الأمان الزائف الذي كنا نحيا فيه، كأزمة صحيّة أو مادية أو عاطفية مثلاً، وبعد مرور الأزمة بسلامٍ، وبخلاف مرارة التجربة، فإنها أحياناً ما تترك خلفها شيئاً آخر، قد يكون أصعب من الأزمة نفسها، مفاجأة صغيرة ولكنها غير سارّة، وهي شعورٌ مزمنٌ بالقلق، وخوفٌ غير منطقي من كل ما هو آتٍ.

عن الخوف والقلق، وتأثير الأدوية النفسية المضادة للقلق، وتجربتي المحدودة بعدما صرت أماً لأول مرة مع مشاعر القلق، وتفاصيل أخرى مهمة تخص نفس الموضوع، من فيلم نتفليكس الوثائقي الصادر حديثاً Take your pills: Xanax، أكتب هذا المقال، علّه يُساعد أحداً في تخطي واحد من أسوأ المشاعر، التي قد يمر بها الإنسان في حياته.

لم أعرف معنى القلق بحق إلا حينما صرت أماً

بينما كنت أُشاهد فيلم نتفليكس الوثائقي الجديد Take your pills: Xanax الذي جذبني اسمه، استعدتُ تدريجياً ذكرى مؤلمة، عشتها منذ عشر سنواتٍ بعد ولادة ابنتي الكُبرى مُباشرة، حينما صرت أماً للمرة الأولى، فحينها عرفت للمرة الأولى معنى أن يشعر الإنسان بقلقٍ "يأكله" حرفياً، ويستحوذ على دماغه بالكامل، فلا يترك لصوت العقل مكاناً.

بدأ الأمر حينما وجدت نفسي في تلك الفترة، أنتبه بشكل غريزي للأخبار السيئة المنقولة عبر السوشيال ميديا، كنت أقرأ عن حوادث التحرش بالصغار، وحالات الخطف، وحوادث الاغتصاب التي غالباً ما تنتهي بالقتل. الأسوأ أنّه كلما كانت تقع حادثة جديدة، أجد البعض يتذكر حوادث قديمة مُشابهة لها، ويبدأ في سرد تفاصيل القصة الصعبة من جديد.

أحياناً كنت أتخطى قراءة مثل هذه الأخبار، إلا أنني كنت أعود لمتابعة التفاصيل من باب الوعي بما يحدث في الشارع من حولي، كي أتجنب الأخطاء التي وقعوا فيها أهالي هؤلاء الأطفال المساكين.

أثرّت هذه الأخبار على حياتي في تلك الفترة فعلاً، فبعد وقوع حادثة تحرش بأحد الأطفال داخل حضانة، قررت أنّني لن أقوم بإلحاق ابنتي إلى أية حضانة، وأنني سأقوم بتعليمها في المنزل حتى وقت دخولها للمدرسة.

صورةٌ لطفلة مقتولة، عسى الله أن ينتقم ممن فعل بها هذا أشدُ انتقام، وجدتها فجأة أمامي على الفيسبوك، جعلتني أقوم بغلق حسابي الشخصي على فيسبوك لفترة ما، وتركتني عدة أيامٍ في حالة يُرثى لها، تتنازعني أسوأ الأفكار والمخاوف على الإطلاق.

وقتها، لم أستطِع تحمّل كل ذلك الشرّ الموجود بالخارج، سلبتني تلك الحوادث الشعور بالأمان، برغم أن طفلتي سالمة معافاة بفضل الله بين ذراعي، إلا أنّ الخوف مما سيحدث حينما أُفلتها لتخرج للعالم، وهو ما سأضطر لفعله طال الوقت أم قصر، كان هو الشيء المسيطر على رأسي.

حتى جاء ذلك اليوم الذي تعرّض فيه ذراع صغيرتي لحرقٍ بسيطٍ من ماء ساخنٍ، على غفلة مني. خطئي الذي أبكاها وأبكاني، وجعلني أفكر أنّ صغيرتي ليست آمنة، حتى منّي أنا.

من هنا بدأت الأفكار السيئة تتوالى على رأسي..

لن أستطيع أن أحميها مهما حاولت. الحذر لا يمنع قدر. العالم مكان قاسٍ. الألم شيءٌ حتمي وبالذات لنا نحن النساء. قد يختبرني الله فيها ليرى قوة إيماني. ربما يؤذيها أقرب النّاس وأنا لا أدري. ربما تمرض. ربما تُختطف.. بل ربما تنام في مهدها آمنة مطمئنة، ولكن تُصيبها متلازمة الموت المفاجئ التي يُصاب بها الرضّع وهم نائمون بلا سبب، فتموت في لحظة وأنا لا أدري عنها شيئاً..

سيلٌ من أفظع الأفكار اجتاح عقلي، الذي كنت أحاول الحفاظ على هدوئه قدر الإمكان، ولكن بلا جدوى.

كانت من أسوأ فترات حياتي، لأني لم أكن أعرف وقتها كيف أشعر بالراحة أو السعادة، وأنا أحمل كل ذلك الخوف بداخلي.

مضادات القلق، كأسٌ من الكحول على شكل حبة دواء

وقتها عرفت أنني أمرّ بحالة من اضطراب القلق، قد تتطور لتصبح مشكلة نفسية حقيقية إن لم تتم السيطرة عليها، وعلمت أنّه بإمكان الأدوية النفسية أنّ تتحكم بشكلٍ كبير في قدرة المرء على التفكير، وهو الأمر الذي كنت بحاجة إليه بشدة، كنت أُريد أن تتوقف تلك الأفكار الهدّامة عن التمتمة في أذني، قبل أن أجُنّ.

"لدينا حبة يُمكنها أن تخلصكم من القلق في خمس دقائق فقط، اسمها Xanax".

جُملة كهذه، كانت تُمنّيني بالمخرج الأسهل على الإطلاق، من الأزمة النفسية التي كنت أعيشها، ولكن ما أفسد الأمر عليّ، هو صعوبة الحصول على واحدٍ من تلك الأدوية إلا عن طريق توصية طبيب، وهو الأمر الذي لم يكن مُتاحاً لي في ذلك الوقت.

أُجبرتُ أن أتراجع عن فكرة الاستعانة بالأدوية، خصوصاً وأنا أعتقد أنّ فكرة لجوئي لها، ليست لأنها الحل الوحيد أو الفعّال، ولكن لأنّها الحل الأسهل والأسرع في نفس الوقت.

بعد فترة قصيرة، نجحت فعلاً في تخطي تلك المرحلة، وسأذكر كيف حدث ذلك لاحقاً، ولكن الشيء الذي أحمد الله عليه كثيراً الآن، خاصة بعد مشاهدتي لفيلم نتفليكس الخاص بدواء Xanax وتأثيره على الأشخاص الأصحاء الذين لا يحتاجونه فعلياً، هو عدم لجوئي لأيٍ من مضادات القلق، أو الأدوية النفسية بأنواعها في ذلك الوقت.

ما علمته أنّ تلك الأدوية مهمة جداً للمرضى الحقيقيين، حسبما يرى الطبيب النفسي بالطبع، كأهمية الأدوية التي تُعالج خللاً ما في الجسد، ولكن لا ينبغي التعامل معها وكأنها مسكنٌ مؤقت، نبتلعه حينما نعجز عن مواجهة مشكلة ما، أو للهروب من مشاعر الحزن والألم الطبيعية، وهو ما كنت سأفعله أنا في السابق.

مثل تلك المرأة بالفيلم التي تقول بأنها حينما فقدت عملها وحبيبها في نفس الوقت، كانت تحتاج لشيء ما يُخدّرها طوال اليوم حتى تنام، وهو الشيء الذي وجدته في مضاد القلق زانكس.

"الأمر أشبه بكأسٍ من الكحول، على شكل حبة دواء".

هكذا يراه مُتعاطو مضادات القلق بأنواعها، وعلى رأسها زانكس لأنه الأسرع فاعلية من بينها، ترياقاً سحرياً، لمعالجة كل هموم الحياة في آنٍ واحد. فهل الأمر كذلك حقاً؟

يقول الأطباء إنّ ما يفعله زانكس، هو أنّه يُقلل التواصل بين الخلايا العصبية في الدماغ، فيُهدّئ كل استجابات الهرب والمواجهة، وهو ما يجعل كلاً من العقل والجسد في حالة استرخاءٍ مفاجئة.

هذا شيءٌ جميلٌ بالطبع، ولكنّ المشكلة أنّ استخدام ذلك الدواء لفترة طويلة، يؤدي بالتبعية إلى استخدام أجزاء أقل من الدماغ، وقد يؤدي ذلك إلى موت بعض الخلايا الدماغية.

وكأننا نُدمر أجزاء من أجسادنا حرفياً، حتى نتجنب مواجهة أفكارنا ومشاعرنا التي تجلب لنا الألم.

هل يمكننا التخلص من القلق بدون اللجوء للأدوية؟

مثلي مثل كثيرين لم أكن أعرف قبل مشاهدة الفيلم، أنّ القلق وغيره من المشاعر السلبية، لها فائدة فعلاً في الحقيقة. فالقلق يعمل كجرس إنذار في حالة الخطر، يُنبّهنا أنّ هناك شيئاً ما يبدو خاطئاً، وحينما يُصاب الشخص باضطراب القلق، فالأمر أشبه بمن لديه جهاز إنذارِ مُعطّل، ينطلق في أي وقتٍ وبلا خطرٍ حقيقي.

هو شعور أقرب إلى الخوف، ولكنّ الفارق أنّك حينما تخاف، فأنت تعرف عدوك وتستطيع رؤية الشخص أو الشيء الذي يُخيفك، أما القلق، فيجعل منك شخص أعمى، في مواجهة عدوٍ غامض وفتّاك.

الطريقة الوحيدة الآمنة للتخلص من القلق حقاً، في رأي إحدى الطبيبات بالفيلم، هي أن نخوض تجربة القلق بالكامل، تجربته وفهمه والتأقلم معه.

تقول الطبيبة: "لو كلما تخلصنا من شعور القلق بأخذ حبة زانكس، سنفقد القدرة على مقاومة القلق والتغلب عليه للأبد".

وفي النهاية تخبرنا عبارة مُلهمةٌ حقاً، بأنّه ليست مهمة الطب النفسي أن يجعلنا سعداء، أو أن يخلصنا من المعاناة والألم، بل أن يجعلنا قادرين على القتال من أجل سعادتنا، وأن نتحمل تلك المعاناة إلى أن تذهب لحال سبيلها، إن استطعنا ذلك، فهذه هي طبيعة الحياة.

عودة لتجربتي، انتهت حالة القلق المزمنة التي عانيت منها بعد الولادة، ببساطة لم أتخيلها، بدأت في الشعور بالتحسن، حينما أفصحت أولاً عما بداخلي من مخاوف لصديقة أثق بحكمتها، تخلصت وقتها من عبءٍ ثقيل كنت أخبئه وكأنّه سرٌ خطير، لو نطقت به سيتحقق فوراً.

كلام صديقتي المتزن، جعلني أُدرك أنّ ذلك أمرٌ متوقع نتيجة لحالتي النفسية غير المنضبطة بسبب إرهاق ما بعد الولادة وقلة النوم، وأنّ ذلك الأمر لن يستمر طويلاً، وأنّ عليَّ أن أهتم بصحتي نفسياً وجسدياً لأنّ الإرهاق سيزيد الأمر سوءاً، وأن أبتعد لفترة عن كل ما قد يحمل لي أخباراً سيئة بالعالم، وأنّه علي قبل كل شيء، أن أُحسن الظن بالله.

بمرور الأيام كنت أصير أفضل فأفضل، لم تختفِ الهواجس مرة واحدة، ولكنّي صرت لا أُعطيها أذني لأسمع لها كما كنت أفعل سابقاً، حتى وإن سمعت، لم أكن أصدقها، فكانت ترحل.

قرأت وقتها عن كون القلق جزءاً حتمياً من حياة أمهات كثيرات، وأنّها مرحلة طبيعية ومؤقتة. قرأت أيضاً عن حسن الظن بالله وعن التوكل عليه كما ينبغي، كما تجنبت فعلاً معرفة تفاصيل الحوادث المؤلمة، بمرور الوقت صارت مخاوفي تلك من الماضي، الذي كثيراً ما أنسى أنني عشته بفضل الله.

كلمة مُكررة وأخيرة: تجربتي هذه لا يمكن تطبيقها على من لديه اضطراب قلقٍ مزمنٍ، أو أية مشكلة نفسية أخرى، فقد يكون الدواء النفسي ضرورة في هذه الحالة، ووحده الطبيب النفسي من يُمكنه أن يُقرر ذلك من عدمه.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سارة يوسف
دارسة للأدب الإنجليزي، ومهتمة بالفنون والسينما
أنا سارة يوسف، زوجة وأم، مُحبة للقراءة والسينما، درست الأدب الإنجليزي، وعملت في وظائف عدة، حتى توصّلت لشغفي الحقيقي وهو كتابة المقالات الفنّية والأدبية.
تحميل المزيد