بدأت مفاهيم ما يُعرف اليوم بالتنمية البشرية بالظهور بالشكل الذي نعرفه اليوم كمهنة وحقل معرفي ومؤسسي بالتطوّر بعد الحرب العالمية الثانية، وما خلّفته الحروب من تشرذم وضياع وخراب وإحساس الإنسان بالتهميش والهوان، وتبنّتها الأمم المتحدة كمؤشر على تقدّم أو تدهور حال البشر في ظل سياساتها لحماية حقوق الإنسان في القرن العشرين. أما موضوع تطوير الذات فهو أزلي وبدأ منذ بدء الخليقة، فالإنسان عادة ما يبحث عن تحسين وضعه المعيشي بكافّة جوانبه، وأهمها الجانب النفسي؛ إما بالسفر أو القراءة أو العلاقات العاطفية، أو بشتى الطرق التي يجد فيها الفرد هويته أو ملاذاً أو خلاصاً.
حتى إن علم النفس الذي كانت بداياته مع أرسطو وابن الهيثم تطوّر كما نعرفه حديثاً على يد سيغموند فرويد، وجميعهم كانوا معنيين بسلوك الأفراد والتفكير العقلي، إلى أن استقلَّ بذاته في القرن العشرين كعلمٍ من العلوم الإنسانية.
لكن النقطة الجوهرية هنا هي أن جميع هذه العلوم والدراسات كانت معنية فقط بفهم السلوك والتفكير والتنبؤ بالظواهر والسلوكيات الناتجة عنها، ومحاولة التحكّم وضبط هذه السلوكيات والأفكار على عكس ما نراه اليوم من الكثير مما يسمّى "كتب وبرامج تطوير الذات والتنمية البشرية وتعليم الحياة". كما أن التنمية البشرية مقرونة إلى حد كبير بالتطور الاقتصادي والسياسي والتعليمي للمكان والمجتمع الذي نعيش فيه، وعليه فإنها تلعب دوراً كبيراً في كيفية تفكيرنا وأسلوب حياتنا، بالإضافة إلى أن التنمية البشرية ليست فردية، وإنما معنيّة أيضاً بتأمين حياة أفضل للأجيال التي لم تولد بعد.
كعبثي من مؤيدي مدرستَيْ ألبيرت كامو وصاموئيل بيكيت، فأنا لا أؤمن بالإجابات بل بالأسئلة، ولا أؤمن بأن هناك سبباً وهدفاً معيّناً ومعنى للحياة التي نعيشها، وبالتالي فكل نظريات تطوير الذات وكتب ودراسات التنمية البشرية الممنهجة والاستهلاكية كما نعرفها اليوم في القرن الواحد والعشرين عبارة عن هراء واستغلال لضعف الناس، وفيها محاولة لترتيب عبثيّتهم، إلا أنه يقع على عاتقي التعليق على خطرها ولو بإيجاز. فليس جرماً أن تكون مهمّشاً عابثااً؛ بل إنه حافز وموقع قوة.
المعروف أن التنمية بطبيعتها مستدامة؛ لكن ما يحدث في التنمية البشرية هو شحن عاطفي مؤقت.
هناك وقاحة لا أفهمها لدى هؤلاء؛ ألا يكفينا خطابات ومواعظ السياسيين والكتب السماوية والديكتاتوريين والشيوخ والرهابنة؟! والأدهى أن هؤلاء الناجحين في هذه المجالات يتمتّعون بأساليب إقناع ولغة ودعم شركات قد تجعلك تصدّق بأن الفيل باستطاعته الطيران. فجميع محاولاتهم تشبه محاولات مُسيلمة الكذّاب في كتابة نسخة شبيهة بالقرآن كسورته المزعومة: "الفيل ما الفيل * له ذيل وبيل * وخرطوم طويل".
هناك إيجابية مفرطة وتفاؤل مفرط عند مدربي الحياة والتنمية البشرية وهذا لا يمُت للواقع بِصِلة؛ فالحياة مقيتة وسلبية ومليئة بالحروب والقتل والكذب والخيانة، ولا يمكنك لعب دور البطولة والمنقذ فيها. حتى في الديانات كلها مثلاً تم قتل الأنبياء والخلفاء والصحابة، إن كان من العدو أو البلاط السلطوي نفسه. حتى في الخرافات، فالبطل دائماً يموت بصورة تراجيدية. ألم نسمع بقول جورج أورويل الشهير: "إذا أردت أن تتنبأ بالمستقبل، تخيّل حذاء يدهس على وجهك كل صباح مليون مرّة" بما معناه.
الحياة سوداوية بطبيعتها، ولهذا أعظم الأدب هو أكثره مأساة. حتى إن أرسطو كان يؤمن بأن المسرح يقتصر فقط على التراجيديا وليس الكوميديا، وأن السرد يبدأ بالفرح، ويجب أن ينتهي بالمأساة لما في ذلك محاكاة للحياة الواقعية وتطهير للذات. كل ما علينا فعله برأيي كعبثي هو قبول هذه المأساة التي هي حياتنا والضحك في وجهها.
مدرّب الحياة الأول هو الفشل، وليس تجنّبه.. مدرّب الحياة هو السقوط وليس كيفية عدم السقوط، ولن يسعفنا مليون كتاب في الذات وتطويرها لمعرفة ما يدور في وعينا أو ما وراء الوعي أو في الباطن أو ما وراء السحاب.
معظم نظريات سيغموند فرويد أبي العلم النفسي تمّ إبطالها وظهرت عشرون ألف نظرية تحل مكانها، فالعالم في تغيير مستمر.
بدائل مدرّبي الحياة والتطوير تبدأ مع قراءة الأدب الروسي في القرنين الـ18 والـ19 وسوف تتعلم الحياة من الألف إلى الياء. يجب علينا قراءة وفهم الكتب السماوية وأرسطو وابن سينا أيضاً.
يجب علينا تغيير نمط حياتنا من أكل وشرب وأصدقاء. ولا أقصد ها هنا الأمر أو حذو خُطى العهر الممنهج، وإنما هذه جوانب بديهية لا تحتاج إلى علوم، بل إنها متجسّدة في أمثالنا: "العقل السليم في الجسم السليم"، و"الطيور على أشكالها تقع". فلنستمع إلى لغتنا وكبار السن فينا وإلى أمثالهم.
نظرية "لا تستسلم أبداً" نظرية فاشلة، ويجب التخلّي عنها بنفس الطريقة التي يجب أن تستغني فيها عن كل الأهداف التي لا تلائمنا كأفراد في وقت وظرف معيّن. فالأشخاص القادرون على إعادة النظر والتخلي عن الأهداف التي لا يمكن الوصول إليها هم الأكثر سعادة. نهج الحد الأدنى من الأشياء (minimalism) يثبت نجاح نظرية أن التخلّي عن الأشياء كالأثاث والأحذية والصور وغيرها يعني الحرية بدلاً من الأسر في ذكرياتها.
توقّف عن السماح للذين يدّعون الألوهية بتسمية أنفسهم "مدرّبي حياة" أو "أساتذة في التنمية البشرية" بالدخول إلى حياتك، فهم يستغلون ضعفك ويصبحون جزءاً من النظام الرأسمالي، فيستغلون نشأة هذه السوق المسماة بالتنمية البشرية وتدريب الحياة.
الحياة بحد ذاتها برنامج مليء بالدروس والحكِم تدفع فيه معاناتك كمخلوق عقلاني في عالم عشوائي، فما هو سبب المبالغ الخرافية لكورسات وبرامج التنمية؟ لماذا لا يتم عرض الخدمات مجاناً إن كان الهدف هو الإيجابية والخير والتنمية والتطوير.
السعادة ليست هدفاً والراحة ليست حلاً؛ فليس هناك حلول أو تفسيرات عقلانية أحياناً.
يتبيّن أن أغلبية من يدّعون تدريب الحياة والتنمية هم من أصحاب الأموال والطبقة البرجوازية وليس لديهم ما يخسرونه. فمصدر إلهامهم ليست الحياة وتجربتها، بل الرفاهية والسفر إلى نيبال كل شهرين ونصف والتكرار والتكرار. "فاضيين أشغال" بالعربي! الكثير منهم لم ينجح في تخصّصه الدقيق أو شهادته فقرّر قلب فشله إلى شهرة. ألم تسمع بقول: "مشكلتنا اليوم هي أن الجاهل واثق من نفسه ويتكلّم بصوت عالٍ، بينما الحكماء صامتون في شك دائم"!
مشكلتي مع مدربي الحياة أنّهم يتقمَّصون دور الله مدعين فهمهم كل شيء.. ألم تسمع قول الماغوط: "مشكلتنا مش مع الله، بل مشكلتنا مع اللي بيحطوا حالهم محل الله!".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.