اتفاق ترسيم الحدود البحرية.. كيف ضرب السيادة اللبنانية وأسقط آخر ورقة توت عن حزب الله؟

عدد القراءات
803
عربي بوست
تم النشر: 2022/10/12 الساعة 09:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/12 الساعة 09:43 بتوقيت غرينتش
صورة لسفينة بحرية تابعة للأمم المتحدة قبالة الساحل اللبناني في بلدة الناقورة، التي جرت فيها مفاوضات ترسيم الحدود البحرية/ رويترز

السيادة كلٌّ لا يتجزأ. 

يُجمع كبار فقهاء القانون الدستوري ومنظروه، الذين اهتموا بدراسة مبدأ سيادة الدولة وأرسوا أركانه في العصر الحديث على هذا المبدأ.

يتفق كل من جان بودان في القرن السادس عشر، وصولاً إلى ريمون كاري دو مالبيرغ في القرن العشرين، مروراً بجان جاك روسو، وليون دوغي في فرنسا، ومن البروسي (ألمانيا الحالية) بول لاباند، إلى جيورغ جيلينيك (مولود في لابزيغ ومنتمٍ إلى المدرسة النمساوية الوضعية في فلسفة القانون ونظريته)، على أنّ السيادة باعتبارها القدرة القانونية الكاملة للدولة على ممارسة السلطة بشكل مستقل على كامل أراضيها، لا يمكن تصوّر أن تكون جزئية.

وعليه، اعتبر هؤلاء الكبار أنّ مصطلح "نصف سيادة" الذي حاول التنظير حوله بعض فقهاء القانون الدستوري، كالفرنسي لويس لو فور في نهاية القرن التاسع عشر (فيما يتعلق بنظرته للفيدرالية)، هو تناقض لفظي يحتوي على ركاكة قانونية، لا سيما من جراء خلطه بين مفهومين مختلفين، ألا وهما سيادة الدولة من جهة، وقوة الدولة من جهة أخرى. 

يشكل وجود تنظيم مسلح خارج عن سلطة الدولة كحزب اللّه، على أراضي دولة معينة كلبنان، انتقاصاً من مبدأ سيادة هذه الدولة على أراضيها، لا سيما من خلال ضرب مبدأ حصرية السلاح بيدها.

 إنّ التساهل في هذا الخلل الحاصل منذ عقود في لبنان، وعدم معالجته بجدية، أدى اليوم إلى انتقاص جديد من السيادة، تمثّل بتنازل لصالح دولة عدوة للبنان في اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، الذي جرى عملياً بإشراف وعلم وموافقة الجهة التي يشكل وجودها انتقاصاً للسيادة اللبنانية منذ عقود، أي حزب اللّه. 

في هذا الاتفاق تنازل لبنان عن الخط 29، الذي يعطيه الحق بحقل كاريش، وهو حقل كان جرى التنقيب عن الغاز فيه واكتشاف أنه يحتوي على كميات كبيرة منه، واكتفى لبنان بالخط 23 الذي يعطيه الجزء الأكبر من حقل وهمي هو حقل قانا، الذي لا نعلم إن كان يحتوي على الغاز أم لا؛ وفي حال احتوى على الغاز، إن كانت الكميات كبيرة أم ضئيلة أم حتى جديرة باستثماره.

ولكن الأكثر خطورة بعد هذا التنازل عن الحقوق الاقتصادية، هو تنازل لبنان جراء هذا الاتفاق عن جزء من حقوقه السيادية إلى إسرائيل، والمتمثل بتقديم لبنان ضمانات أمنية لدولة عدوة بنظر القانون الدولي، لا سيما في المنطقة البحرية الفاصلة بين "خط العوامات" (وهي الحدود البحرية التي تفردت إسرائيل بفرضها من جانب واحد لدى انسحابها من لبنان سنة 2000) وبين الخط 23، لتكون هذه المنطقة نوعاً من الدرع لأمن إسرائيل. 

فبعد مبدأ الأرض مقابل السلام الذي كان أساس التفاوض في مؤتمر مدريد سنة 1992، ثم مبدأ الأمن مقابل السلام الذي حاولت فرضه إسرائيل في مفاوضات الحل النهائي مع السلطة الفلسطينية، يبدو أننا أصبحنا في مبدأ الأمن مجاناً، الأمن مقابل لا شيء يذكر، وهو مبدأ يحوّل حزب اللّه عملياً لمجرد حارس حدود لإسرائيل. 

تحاول السلطة اللبنانية، وحزب الله الذي يهيمن عليها، تغطية هذه التنازلات التي أقدما عليها في اتفاق ترسيم الحدود البحرية الأخير، بما لا يتعدى كونه لعباً على الكلام اجترحه الوسيط الأمريكي هوكشتاين في نص اتفاق ترسيم الحدود، ناهيك عن بهرجات إعلامية من قبيل اجترار حزب اللّه لخطابه المعتاد عن انتصارات وهمية، بالإضافة إلى إيهام اللبنانيين بسيرك المسيرات الاستعراضي الذي نظمه الحزب في الصيف فوق كاريش. ولكنّ أدوات البروباغاندا هذه لم تعد تنطلي على كثير من اللبنانيين الذين دفعتهم هذه التنازلات الأخيرة إلى الترحم على اتفاق 17 مايو/أيار 1983 بين لبنان وإسرائيل، والذي لم يوقع على إصداره بالنهاية رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل (بعد إقراره في مجلس النواب اللبناني)، وذلك بعد رضوخ الجميّل للضغوط السورية.

المقارنة مع اتفاق 17 أيار

المقارنة بين اتفاق ترسيم الحدود البحرية من جهة، وبين اتفاق 17 أيار من جهة أخرى، دونه عقبات جمة، فاتفاق 17 أيار كان اتفاق سلام بين دولتين عدوتين، أي اتفاق أكثر شمولاً بكثير من مجرد اتفاق ترسيم حدود بحرية بين هاتين الدولتين. 

ثم حتى لو سلّمنا جدلاً بأنّ اتفاق 17 أيار كان أفضل للبنان من اتفاق ترسيم الحدود البحرية الحالي، لا سيما لناحية ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين، فهذا لا يعني أنّ اتفاق 17 أيار كان جيداً، أو أنّ لبنان ملزم بالاختيار بين سيّئين، في حين أنه كان باستطاعته تحصيل ما هو أفضل منهما. 

احتوى اتفاق 17 أيار على 12 مادة فقط (4 صفحات)، ولكنه ضم مجموعة من الملحقات المسماة "ترتيبات أمنية" جاءت أطول من الاتفاق الأساسي نفسه (10 صفحات)، وقد حدت هذه الملحقات من السيادة اللبنانية بشكل معتبر، لا سيما ضمن نطاق ما سُمي بـ"المنطقة الأمنية" في الجنوب اللبناني على الحدود مع إسرائيل. 

فمثلاً، 4118 عسكرياً و223 ضابطاً فقط لا غير، هو كامل عدد الجيش اللبناني الذي تسمح ملحقات اتفاق 17 أيار 1983 بتواجده في "المنطقة الأمنية"، على الأراضي اللبنانية، في الجنوب اللبناني، دون أن يفرض هذا الاتفاق بالمقابل أي منطقة أمنية على إسرائيل في "أراضيها" الشمالية، ودون أن يفرض أي قيد على جيشها (عدداً أو عتاداً).

 حتى عدد ونوع بنادق الجيش اللبناني وقوى الأمن اللبنانية كان محدداً بشكل دقيق في هذه الملحقات، ناهيك عن باقي الأسلحة. وهذا ليس إلا جزءاً يسيراً من الإملاءات الواردة في اتفاق 17 أيار، والتي فرضت اختلالاً كبيراً في القيود بين لبنان وإسرائيل، سيما أنّ هذه القيود جاءت بشكل حصري على لبنان، وسيادته، وجيشه، وقواه الأمنية، دون أن يفرض أي منها بالمقابل على "إسرائيل".

اتفاق 17 أيار كان ثمرة تنازلات كبيرة أقدم عليها الممثل الشخصي للرئيس أمين الجميّل، وهو رجل أعمال لبناني في موناكو، كان عيّنه الرئيس اللبناني وقتئذ ليفتح قناة تفاوض سرية غير رسمية مع الإسرائيليين، وذلك بالتوازي مع قناة التفاوض الرسمية التي كانت برئاسة السفير أنطوان فتال. ويمكن العودة إلى كتاب الفرنسي آلان مينارغ حول أسرار الحرب اللبنانية (بالفرنسية) للوقوف على كل هذه التفاصيل.

أنطوان فتال كان علامة في القانون، وأستاذاً جامعياً مرموقاً في القانون الدولي، ودبلوماسياً محترفاً، ومن القلائل الذين درسوا العبرية، وبسبب حرفيته العالية فقد استعصى سبر أغوار شخصيته حتى على علماء النفس لدى الموساد الإسرائيلي أثناء المفاوضات. وقد تصرف فتال خلال تلك المفاوضات كخادم أمين للدولة اللبنانية ولمصالحها، وليس لمصالح أي ميليشيا أو أي دولة إقليمية أو أي طرف آخر كما هو جارٍ اليوم، ولذلك لم تتقدم المفاوضات عندها بشكل كافٍ وسريع كما كان يريد الإسرائيليون، فتم وقتها فتح قناة تفاوض سرية غير رسمية موازية لتسريع الأمور.

ولكنّ التنازلات التي أقدم عليها الممثل الشخصي للرئيس الجميل (قناة التفاوض السرية الموازية) كانت كبيرة، لدرجة أنها أثارت دهشة واستغراب وحفيظة الإدارة الأمريكية نفسها (إدارة الرئيس رونالد ريغان)، وهي الحليف الأكبر لإسرائيل (انظر الفيديو المرفق ابتداء من 2:52، من سلسلة "حرب لبنان" على الجزيرة، شهادة موريس درايبر ونيكولاس فيليوتيس وهما من أركان قسم الشرق الأوسط في الخارجية الأمريكية وقتها).

بالمحصلة، لا تصلح اتفاقية 17 أيار 1983، التي أسقطها في الماضي من يدافع اليوم عن اتفاق ترسيم الحدود البحرية، لأن تكون أساساً لمقارنة جدية مع اتفاق ترسيم الحدود البحرية العتيد، فكلاهما سيئ للبنان. كان يمكن للبنان مؤخراً أن يحصل على اتفاق بشروط أفضل لصالحه، وذلك لو جرى التفاوض من قبل محترفين يؤتمنون فعلياً على مصالح الدولة اللبنانية ويتحرون الحفاظ عليها حصراً أثناء التفاوض، أي لا يتحرون الحفاظ على مصالح أي تنظيم مسلح يتحكم بقرار الدولة اللبنانية، ولا الحفاظ على مصالح أي دولة إقليمية يتبع لها هذا التنظيم المسلح، ولا الحفاظ على مصالح طبقة سياسية مستعدة لتبديد ما تبقى من ثروات لبنان، من أجل البقاء في السلطة.

البعد الإقليمي للاتفاق

يتم طرح البعد الإقليمي لاتفاق ترسيم الحدود البحرية اليوم من باب كيفية إقراره داخلياً، أي من باب ضرورة احترام الأصول الدستورية التي تُوجب مناقشة اتفاق كهذا في مجلس النواب اللبناني، وإقراره بقانون يُصدره رئيس الجمهورية، وليس الاكتفاء بـ"تهريبه" بمرسوم يوقع عليه رئيس الجمهورية ويتم إرساله إلى الأمم المتحدة.

بكلام آخر، إنّ اتّباع الآليات الدستورية لإقرار هذا الاتفاق هو الضمانة لأن يكون هذا الاتفاق برعاية الدولة اللبنانية، لا الدويلة، الميليشيا التي تتحكم بالقرار في لبنان. 

وقد أثارت -عن حق- بعض الأقلام الدائرة في فلك ما يسمى بمحور "الاعتدال العربي" هذه النقاط، ولكن لتوظيفها ولاستثمار اتفاق الترسيم في مصلحة المحور الذي تدور في فلكه، أكثر من توظيفها في مصلحة لبنان. 

فقد أثنت هذه الأوساط على إنجاز اتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، ولكنها تحفظت على هوية الجهة الإقليمية التي ستقطف ثماره إقليمياً، أي إيران. بكلام آخر، يقول هؤلاء ما معناه أنّ اتفاق الترسيم جيد، ولكن فليكن ضمن المسار العربي للسلام والتطبيع (اتفاقيات أبراهام)، لا ورقة إقليمية ضمن أوراق إيران التفاوضية مع الغرب، لا سيما أمريكا، والباب إلى ذلك هو احترام الآليات الدستورية لإقراره. 

فبعدما سبقته الأحداث يبدو أنّ محور "الاعتدال العربي" بقيادة السعودية استفاق فجأة، وأصبح يريد اللحاق بقطار الترسيم، وهو يبحث عن دور في لبنان، لا سيما عن محل من الإعراب في هذا الاتفاق العتيد. ويأتي ذلك بعد أن أدار هذا المحور ظهره للبنان وتركه يتخبط في عز أزمته، وبعد أن أسهمت الدولة التي تتزعم هذا المحور، بقرارتها التي لا تخلو من النزق وعدم التبصر، بإضعاف الطائفة اللبنانية (السنية) التي تشكل الرافعة الأساسية للدور السعودي في لبنان. 

في المضمون، لا يفرق هذا الموقف كثيراً عن موقف حزب اللّه وحلفائه في لبنان وراعيته الإقليمية إيران من اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، فالاختلاف ينحصر بشكل أساسي حول الجهة التي ستقطف الثمار الإقليمية لاتفاق الترسيم (إيران أم السعودية)، وحول من يهرول بشكل أسرع للسلام مع إسرائيل (محور الاعتدال العربي أو محور الممانعة)، وضمن أي محور يكون لبنان في هذه الهرولة. 

أما لبنان بالنسبة لهاتين القوتين الإقليمتين المتصارعتين فمجرد ساحة صراع نفوذ بينهما، واتفاق الترسيم مادة جديدة لهذا الصراع. فالطرفان الإقليميان لا يوليان أهمية لمصلحة لبنان العليا ودولته ومؤسساته في هذا التفاوض (وإن اختلفت الدرجات بينهما)، بقدر ما يهم كلاً منهما قطف ثمار التنازل الذي أقدمت عليه السلطة اللبنانية، التي يهيمن على قرارها تنظيم مسلح تابع لدولة إقليمية، وذلك على حساب مصالح لبنان السيادية والاقتصادية.

ولكن غاب عن هؤلاء أنّه لا مصلحة للبنان ولدولته ولسيادته على أراضيه، في أي اتفاق مع إسرائيل يمكن أن يبرمه لبنان إذا كان هذا الاتفاق ضمن صراعات المحاور الإقليمية، والتنافس حول النفوذ في الإقليم بين إيران والسعودية، أي أنه لا مصلحة للبنان في أي اتفاق  مع إسرائيل خارج تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية وسياسة المحاور، لأنّ أي اتفاق لا ينم عن استقلالية قرار الدولة اللبنانية في حال خضوعها لسياسة أحد المحورين، لا بد أن يترجم عبر تنازلات مجانية سوف يكون على لبنان تقديمها لإسرائيل، نزولاً على رغبة ومصالح الراعي الإقليمي للمحور الذي يمكن أن ينخرط به لبنان، والتي تتقدم على مصلحة لبنان، وهو ما من شأنه أن ينعكس سلبياً على مصلحة لبنان العليا. 

الخلاصة

بالمحصلة، يحتوي اتفاق ترسيم الحدود البحرية على ضرب للسيادة اللبنانية من خلال تنازلات أقدم عليها عملياً من يخرق يومياً، منذ عقود، بسلاحه الخارج عن سلطة الدولة سيادة الدولة اللبنانية، وكل ذلك تحت ذريعة حماية لبنان وصون سيادته.

هذا الاتفاق هو سقوط آخر ورقة توت عن حزب اللّه، وهو تعرية لفراغ خطابه حول مقاومة إسرائيل. 

ولا تكون معالجة تداعيات هذا الاتفاق عبر استبدال هيمنة بهيمنة أخرى، بل باستقلالية القرار اللبناني، وبالعمل من أجل تحقيق سيادة الدولة بشقها الداخلي، لا سيما من خلال حصر السلاح بيدها، وذلك كي لا يتم التفريط بالسيادة أيضاً كما حصل في هذا الاتفاق بشقها الخارجي؛ فالسيادة كلٌّ لا يتجزّأ، وإذا تم التفريط بجزء فذلك يعني حتماً، عاجلاً أم آجلاً، كما حصل مؤخراً، التفريط بالكل. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
حقوقي وكاتب سياسي لبناني مقيم في باريس
تحميل المزيد