من الكيس البلاستيك إلى اللانش بوكس.. رحلة تطور الساندويتش المدرسي وأثره على المجتمع

عدد القراءات
756
عربي بوست
تم النشر: 2022/09/17 الساعة 11:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/09/17 الساعة 11:22 بتوقيت غرينتش

"ساندويتش الجبن بالطماطم" من أشهر المعالم المدرسية

"عام دراسي جديد، على عملنا شهيد، فاغتنموه فإنه لا يعود إلى يوم القيامة"، بهذا الدعاء كنا نستفتح عامنا الدراسي الجديد، ونتذكر هدفنا، ونسأل الله أن يعيننا على طلب العلم فيه، مستذكرين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع"، في الساعة السابعة صباحاً ينطلق قرآن الفقرة الصباحية في المذياع، والذي يستمر حتى السابعة والنصف، وأثناء ذلك تنبعث رائحة المشروب الساخن المميز الذي أعدته أمي "الحِلبة"، التي تذكرنا بفوائدها كل يوم، وتزداد اللذة حين تضع عوداً أخضر من النعناع، ويرافقه ساندويتشان، واحد آكله في البيت أو الطريق إن ضاق الوقت، وآخر في فسحة المدرسة، والمكوِّن الأساسي لهما بالطبع هو الجبن بالطماطم، وإن كان لدى أمي من الوقت ما يكفي تعدّ لنا البيض المسلوق مع البطاطس والطعمية، ويومها نكون مثل أولاد الذوات.

أولاد الذوات قديماً و"غدّيوة" الفسحة 

 اللانش بوكس

فمفهوم أولاد ذوات جيلنا يختلف عن الجيل الحالي، فمن كان يحضر ساندويتشا بخبز فاخر غير خبز الشعب، أو مكوناته الجبن الرومي واللانشون أو حتى البطاطس المقلية مع الطعمية، كنا نعده من أولاد الذوات، وخاصة إن كانت أمه ماهرة في لف الساندويتش بإحكام دون أن يتفلت، وتلفه بالورق الأبيض أولاً قبل أن يوضع بالكيس البلاستيكي الأبيض الشهير، وفي أثناء الفسحة كانت تقام الخطط والكمائن التي تفكر في كيفية أخذ قضمه من هذا الساندويتش الفاخر، فإما بالتودد له كالقطط، أو بالتفاخر والتسابق بين من ساندويتشه أكثر لذة، وبالتالي يتم تداولها لمعرفة المذاق بين الجميع، أو يتم الاتفاق على عمل "غديوة"، وهي مأدبة طعام صغيرة يقيمها الطلاب في يوم الخميس، نهاية الأسبوع، بعد انتهاء اليوم الدراسي أو أثناء الفسحة، ويحضر كل طفل منهم ما يستطيع من بيته في حدود "الطبيعي" والمعتاد يومياً، أو يتشارك بما أحضره من ساندويتشات، وكان الكل سعيداً فرحاً ولا يشعر أحدهم بالاستعلاء على الآخر.

الكيس البلاستيك والجبنة بالطماطم "دقة قديمة" تمت إحالتهما للتقاعد

في هذه الأيام صرنا نرى العجاب، فتبدل حال الكيس البلاستيكي الأصيل، وتم إصدار الأمر بإحالته المبكرة إلى التقاعد، ليحل محله جيل جديد يسمى "اللانش بوكس". ولم يعد له حجم ثابت ولون واحد في يد الجميع وهو الأبيض، وإنما هلّ علينا بمختلف الألوان والأحجام والتقنيات وأيضاً الأسعار، حتى صار الحصول عليه لمن استطاع إليه سبيلاً!

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انتقل إلى مكونات الصندوق، في البداية كان مجرد صندوق بلاستيكي مربع الشكل عادي، يوضع بداخله ذات الساندويتش التقليدي "الجبن بالطماطم"، وتطور الأمر ليحال أيضاً الجبن بالطماطم إلى التقاعد برفقة صديقه القديم "الكيس البلاستيكي"، ويستبدل الجبن بالطماطم بالبيتزا والبسطرمة والهوت دوج، وليس هذا فحسب، بل الخبز نفسه لم يعد الخبز المصري ولا الفينو، بل صار التوست والكايزر، وهل توقف الأمر؟ لا والله، بل لا بد بجانبه من العصير والفواكه والحلويات المتنوعة الفاخرة، ومن ثم لا بد من إعطاء الطفل مصروفاً لجيبه كي يشتري في "الفسحة" ما تهواه نفسه مثل بقية زملائه!

50 قرشاً أسبوعياً كفيلة بتعلّم الاقتصاد والتدبير

بمناسبة المصروف، أتذكر أنني في طفولتي كنت آخذ 50 قرشاً للأسبوع كله دفعة واحدة، على أن أوزعها بين أيام الأسبوع حسب مهاراتي، إن شئت قمت بصرفها دفعة واحدة، وإن شئت قسمتها على دفعات، وفي كل الأحوال لن يتم تقاضي مصرفاً جديداً قبل موعده المحدد، وهذا ليس له علاقة بمدى قدرة أسرتي المادية، فذلك كي تعلمني أمي الاقتصاد والتدبير، والانفاق حسب الحاجة فقط، وكان يكفيني، وتذكرني أنه ليس من الجيد أن نشتري كل ما تقع عليه أعيننا، فذلك إسراف يحاسبنا عليه الله، وأنا الآن أشكر لأمي حسن صنيعها بي، رغم أني كنت أتذمر من ذلك، ولكن الآن أدركت ما غرسته وربتني عليه أمي منذ صغري.

فلما وصلت مظاهر الترف الاجتماعي إلى الساندويتش المدرسي؟ وهل ننتبه للقيم التي تزرع في نفوس الأطفال بتلك المظاهر الفارهة والإسراف؟ بل هل احتفظ التعليم المدرسي بقيمه وهدفه التي يذهب من أجلها أم خرج عن المسار المطلوب؟ هل تودعين طفلك للمدرسة يومياً، أم إلى رحلة مدرسية يومياً؟ إذا كان هذا الحال اليومي فكيف هو شكل صندوق طعامه في الرحلة؟ وكم يتقاضى مصروفاً حينها؟ وهل نهتم بما في عقل الطفل كاهتمامنا ببطنه؟ وهل هذا الاهتمام المفرط بغذاء الطفل يناسب احتياجاته للنمو من الغذاء أم يزيد ويكفي عشرة أفراد معه؟

"التوازن" سر النمو السليم لطفلك وليس اللانش بوكس

 اللانش بوكس

أجل عزيزاتي، من الجميل أن نهتم بغذاء الطفل ونبتكر فيه ونسعده، ولكن "التوازن" مطلوب، وهو أساس الحياة بكل جوانبها، يجب أن ننتبه أن الشيء كلما زاد عن حده انقلب ضده، والاهتمام المفرط ليس علامة حب للطفل، بل أنت تضرينه بتلك الطريقة في أكثر من جانب، غذائياً لم تعطيه الغذاء المتوازن المطلوب، بل كمن أراد طفلها قطعة من الكعكة فأعطته الكعكة كاملة في قضمه واحدة، فاختنق ومات، وهي تعتقد أنه تحبه! وصحياً فأنتِ تساعدينه على الشره والبدانة، ومادياً تعلمينه الإسراف، وأن تكون كل طلباته مُلبّاة، ما ينعكس بعد ذلك على الجوانب الأخلاقية والاجتماعية والسلوكية، فيكبر طفلاً مدللاً لا يعرف كلمة لا، ويقتل من يقولها له كما نرى في أيامنا هذه أيضاً، ودراسياً فأنتِ شتتي انتباه طفلك، وغيّرتي قِيمه ومفاهيمه عن التعلم، فلم يعد يذهب للمدرسة وهدفه الأول الدرس، بل صارت له أهداف أخرى أحبّ لقلبه وبطنه، وهي التفاخر بمحتويات علبة طعامه على زملائه بما أعدته له أمه، وقد يعود زميله لأمه باكياً، يشكو لها فقرهم ومستواهم الاجتماعي، الذي لا يستطيع أن يحضر له طعاماً شهياً مثلما في علبة طعام زميله، وندخل في مشكلات اجتماعيه أخرى أكثر تعقيداً، نتاجها غرس الحقد والكراهية والطبقية بين الأبناء، وأن الأفضل هو من يملك أكثر، وهذا الأكثر لا حد له، فيتسابق الجميع في طاحونة الحياة كي يستطيع تلبية تلك الاحتياجات التي لا حد لها ولا تنتهي، بل حتى إن بعض المعلمين والمعلمات يشتكون مما تعكسه مظاهر الترف في صناديق طعام بعض الطلاب، يجعلهم يشتهون ما فيه مع عدم مقدرتهم على امتلاكه، فاتقوا الله في أبنائكم وأبناء غيركم، ولا تكونوا معول هدم، بل بناء، وخير، لا شر، وكونوا يداً تغرس في نفوس الأجيال التقوى وتراعي الغير، وتساعد أبناءها وغيرهم على ألا تخرج الدراسة والمدرسة عن محتواها وهدفها، فكلها ساعات قصيرة وسيعود طفلكِ لبيتك، أطعميه ما شئتِ، وعلِّميه أن للطعام عورة وحرمة تحترم، فلا يطلع عليها أحد، ولا نخرج عن المألوف ونستثير حنق الآخرين ونكون سبباً لشعورهم بالنقص أو عدم الرضا أو الكفاية مهما فعلوا، وليكن هدفنا الغذاء السليم المتوازن الذي يسد الاحتياجات دون إسراف، ونركز على عقل سليم ينير بنور العلم وحب الله، ثم الآخرين، ونتعاون معهم على الخير.

اللانش بوكس ليس الخيار الصحي دائماً لطفلك

حذَّر العديد من الأطباء والمختصين من أخطار "اللانش بوكس" على صحة الأطفال والكبار، والتي قد تصيبهم بأمراض عديدة، منها القلب، وضعف نمو الدماغ، وارتفاع ضغط الدم، وذلك لسوء المادة المستعملة في تصنيعه، مع جهل الأهل بذلك عند الشراء، فاللانش بوكس المصنوع من مادة BPA، وهي مادة كيميائية تُستخدم في صنع بعض أواني البلاستيك، والتي تتسرب إلى الطعام، وتزيد من احتمالية حدوث مشاكل صحية كما ذكرنا أمثلتها، وبالتالي يجب النظر أسفل اللانش بوكس للعثور على رمز التعريف داخل المثلث الصغير، سنجد أرقاماً معينة داخله، يشير كل رقم منها إلى دلالة معينة متعلقة بالصحة، وأن أفضلها هو اختيار العلبة التي يكتب عليها رقم ٧ BPA Free، ما يشير إلى خلوها من المواد الضارة، كذلك فإن أفضل خيار للأكياس البلاستيك هو المعدة لحفظ الطعام فقط، أي الأبيض الشفاف، الشهيرة باسم "أكياس الثلاجة أو التخزين". وذلك وفقاً لما ذكر في برنامج "وليد كلينك"، الذي يقدمه وليد عبد السلام.

 اللانش بوكس

كما أكدت الدكتورة "آمال صبري"، استشارية التغذية العلاجية، على ضرورة الاهتمام بانتقاء اللانش بوكس، كونه حافظاً لأطعمة الأطفال، وذلك بالتأكد من جودة البلاستيك المصنوع منه، كما أكدت على أن الأنواع المصنوعة من بلاستيك رديء تؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة، أهمها التأثير على الغدد الصماء لدى الرضع والأطفال، خاصةً غدة البروستاتا، ما يُسبب لهم البلوغ المبكر، ومشاكل مستقبلية في الإنجاب، فضلاً عن احتمالية تشوّه الأجنة وقلة وزن المواليد. كما تؤثر على أدمغة الأجنة، ما يؤدي إلى اضطرابات سلوكية، وزيادة فرص الإصابة بالسكري من النوع الثاني، والسمنة والسرطان.

وفي الختام، هناك مثل مصري قديم يقول "من فات قديمه تاه"، وهذا ما يعانيه أبناء الجيل اليوم، نسعى وراء التقدم والثقافات الغربية المستوردة دون وعي وحكمة، وبالتالي فإننا نتوه عن أهدافنا وقيمنا، وهذا لا يعني أن نرفض التطور والتقدم، ولكن يجب الانتباه لما نستورده من ثقافات، ويجب أن نأخذ منها ما يتناسب مع قيمنا وديننا ومعايير مجتمعنا، وبما يحافظ أيضاً على صحتنا. وعلى ذكر الغرب فإن المدارس هناك تقدم للطفل وجبات غذائية ساخنة طازجة، تتناسب فيها المعايير الصحية، ويتساوى الجميع فيما يتناولونه من طعام، وما يستخدمونه من أدوات، فهل نفعل نحن ذلك؟ أم نطبق ما يستهوينا؟ من فضلك فكّر قليلاً قبل أن تقلد كل ما تراه، وتُعلِّم طفلك التقليد الأعمى، وابدأ بنفسك ومَن تعول، ولتكن حياتكم صحية بمختلف جوانبها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

آلاء مهدي
مدونة مصرية، وتربوية متخصصة فى الموهبة وصعوبات التعلم
حاصلة على بكالوريوس العلوم فى التربية الخاصة، كلية التربية الخاصة، جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، باحثة ماجستير صعوبات التعلم بكلية علوم الإعاقة والتأهيل، جامعة الزقازيق
تحميل المزيد